«علاء الديب»: المثقف المصري في مواجهة التخلف والخذلان

2017/02/23
Updated 2017/02/23 at 11:29 صباحًا

إبراهيم عادل :كلّما قلّبت في أوراق «علاء الديب» وحكاياته، تمثّل لي نموذج «المثقف» بكل تجلياته، وانهزاماته، وانكساراته، وشعرت أن ذلك النموذج متحقق دومًا، ليس مصريًا فحسب، ولا عربيًا فقط، بل هو «المثقف» بألف ولام التعريف، تحاصره الدنيا كلها بالهزائم والخيبات، فلا يرضى بالصمت ولا يركن للاستسلام، بل يسعى جاهدًا لكي يغيّر ويقاوم، ويسعى بكل ما أوتي من جهد لكي يرصد مظاهر التغيير، ويكشف قدر استطاعته الجمال والحقيقة مهما حاصره القبح والكذب!
يقول في كتابه صغير الحجم كبير القيمة «وقفة قبل المنحدر»:
ليس التخلّف فقرًا فقط، إنه كائنٌ أخطبوطي: ولد في الظلام من الفقر والجهل، وعاش في الغفلة والبلادة، تربى في العجز وضيق الأفق. التخلف بالنسبة لي جسدٌ أصارعه في كل لحظةٍ من لحظات وجودي، في بيتي، في عملي، في الشارع في الوجوه، في المشاعر، في مداخل المدن وتحت الكباري، في العلاقات بين الناس، في الحب .. فيما أقرأ وأتناول .. فيما أرضى عنه وفيما أرفضه.
شيءٌ واحد واضح وسط كل هذه القتامة، يبدو ناصعًا، وكأنه شمس منتصف الليل، هو أن هذا الشعور بالتخلف لم ينقلب إلى شعور مزمن “بالقرف” أو الاشمئزاز لا من النفس ولا من الواقع، شعورٌ بالتخلف يدفعني ـ لسببٍ لا أدريه ـ إلى مزيدٍ من الانتماء، مزيد من ذلك الحلم الساذج البسيط المستحيل: الحلم بأن يعيش الناس من حولي واقعًا جديدًا
لم يكن هذا الكتاب مجرد «سيرة ذاتيّة» عاديّة للكاتب، بل شهادة حقيقية مكتوبة بكل صدق للمثقف المصري في سنواتٍ ذات خصوصية وأهمية بالغة في التاريخ المصري الحديث، ولعل المفاجئ أيضًا للقارئ اليوم أن الأحوال حينها لم تختلف كثيرًا عمّا يعيشه الناس اليوم، سواء المثقفون الحقيقيون الذين يشعرون بمرارة الهزيمة (بعد ثورةٍ نادت بالحرية والديمقراطية سالت من أجلها الدماء) وسوء الأوضاع التي وصلنا إليها جميعًا، أو حتى الناس العاديين الذين يرصدون ذلك ببساطة ويتألمون من تلك الحالة أيضًا.
ولكن «وقفة قبل المنحدر» لم تكن شهادته الوحيدة، ولم يكن كتابه الذي صوّر فيه موقفه بشكلٍ محدد واضح فقط، ولكنه سبقه بعددٍ من الأعمال الإبداعية التي تدور في نفس الفلك، وقد كان شغله الشاغل طوال حياته وكتابته أن يعبّر عن ذلك المثقف المهزوم المأزوم في آنٍ معًا، وأن يصوّر طريقًا لخلاصه.
كتب «علاء الديب» أولى رواياته «أطفال بلا دموع» في أواخر الثمانينيات (1989) ليصوّر فيها حالة ذلك «المثقف» بكل جلاءٍ وشفافية، حيث الدكتور الجامعي «منير فكّار» القادم من قريته للدراسة ثم التدريس في الجامعة، والذي يفاجئ بنفسه غير قادرٍ على البقاء في «مصر» فيسافر إلى «الخليج» ويتحول إلى تلك الشخصية التي لا هم لها إلا «جمع الأموال»، يشعر بعد فترة بالاغتراب.
لم أعد أستطيع أن أتحمل مصير مدرس اللغة العربية الفقير الشهيد المتواضع، أن أتحوّل إلى حمارٍ مصري طيب، يمشي على مدقٍ بجوار حائط، يحمل أسفارًا ويوصّل طلبات الثقافة العربية إلى منازل الطلبة الذين يسمعون الديسكو ويأكلون الهمبورجر، ويلقون الفتات إلى الدرويش الذي يقف على الباب يردد النصوص والأشعار، إلا أن أظافري اللينة لم تكن تخمش إلا وجهي وصدري، دمي النازف لا يتجمّع حوله إلا الذباب.
روايته الثانية «قمر على المستنقع» كتبها بعد ست أعوام، ويواصل فيها حكاية «الدكتور منير فكّار» ولكن من خلال صوتٍ آخر هو صوت زوجته «د.سناء فرج» التي كنّا قد تعرفنا عليها من خلال زوجها، وربما كرهها القارئ أو كان حانقًا عليها، فإذا بها تعبّر في هذه الرواية عن نفسها بقوّة، ويتمكّن «علاء الديب» بمهارة الروائي الفذ أن يسبر شخصيتها ويصل إلى عمق مشكلاتها ويعبّر عن مواقفها تعبيرًا صادقًا، فنجدها حائرة مترددة ترصد الحياة بين من عرفتهم من رجال قبل زواجها بمنير فكّار وبعده، ولا نملك إزاء متابعة تفاصيل حكايتها إلا أن نتعاطف معها بعد أن نتعرّف على صورة أخرى من صور «المثقف المهزوم» حينما يكون امرأة:
تحدث معي الأشياء بعد فوات الأوان، أتذكّر الكلمات التي يجب أن تقال بعد أن أغادر المكان، أشعر بالفرح بعد انقضاء اللحظة، فتشت في قلبي عن نبضة حب، نبضة فرح، فلم أجد إلا فراغًا لاهثًا وخوفًا من المجهول، تذكرني وروده المسكينة بالحب الممضوغ الذي نلوكه معًا، بذلك الإعياء الذي أشعر به بدلاً من اللهفة على اللقاء!
ولكن علاء الديب لم يكتف بتوضيح الصورة من الجانبين (الرجل وزوجته) بل يبدو أن تلك العائلة بقيت راسخة في ذهنه، وأراد أن يكمل فصول حكايتها، فكتب بعد أربع سنوات حكاية الابن «تامر فكّار» في رواية «عيون البنفسج»، لتكون نهاية تلك «الثلاثية» التي أصدرتها الشروق عام 2009.
في «عيون البنفسج» نحن مع مأساة جيل آخر، مع الشاعر الشاب «منير فكّار» الذي نشأ وتربى بين هذين المثقفين، تتنازعه أفكاره وأحلامه بين نموذج والده ووالدته، يحاول أن يجد لنفسه مكانًا بين هذه الصراعات الخارجية وبين صراعاته الداخلية الجديدة، حيث يبحث عن هويته المصرية والعربية والفرق بينهما، وحيث يسعى لتكوين قصة حبٍ حالمة تحقق آماله في الغد الأفضل، ولكنه يصاب بخيبات الأمل المتلاحقة!
الألم الكبير يصنع الشعراء، هل يمكن أن أصبح شاعرًا الآن؟ الشعراء ينتحرون، العباقرة منهم يموتون مبكرًا، أنا أدب على الأرض وآكل الطعام، لا شعر ولا غياب، حضور ـ فقط ـ بلا مذاق، في الركن الذي يضيق حولي يومًا بعد يوم بحثت عن أشياء بديلة غير النقود والطموح والرغبة في النجاح فلم أجد، الشعر ضوءٌ في نهاية النفق، لكنه ضوءٌ مستحيل كما صار البنفسج مستحيلاً!
وهكذا نجد في هذه الثلاثية ومن خلال تقنية «تيار الوعي» التي ينفذ من خلالها «علاء الديب» إلى نفسيات شخصياته ويتمكّن من تصويرهم تصويرًا متقنًا يعكس حالاتهم وصراعاتهم الداخلية والخارجية، وهو لم يقتصر في ذلك على جيل واحد بل امتد لجيلي الآباء والأبناء، كل هذا بإيجاز شديد وتكثيف بالغ، يكاد يكون السمة الأبرز في كتابة «علاء الديب» بصفة عامة.
والمتأمل لهذه الثلاثية يجد فيها قدرة فنية وسردية غير عاديّة، تكشف عن أديبٍ متمكن من أدواته، يجد القارئ متعة خاصّة وخالصة في تذوق عالمه، ولكن «الديب» لم ينجرف وراء تيار الكتابة الإبداعية، وإن كان قد كتب غير هذه الثلاثية قصصًا قصيرة متميّزة أيضًا هي «زهر الليمون» و«المسافر الأبدي»، ثم كانت روايته الأخيرة «أيام وردية». نلحظ في تلك الأعمال كلها أن عوالم قصصه ورواياته لم تختلف كثيرًا فإذا كنا مع «منير فكّار» المثقف والأستاذ الجامعي المحبط في «ثلاثية أطفال بلا دموع»، فإننا نجد تجليا آخر له في «زهر الليمون» مع شخصية «عبد الخالق المسيري» الذي يعاني فيها بطلها من صراع بين رجال الدين والقومية العربية واليسار ومعاركه التي لا تنتهي.
وهو إذ يعكس هذه الصراعات يرى أنها إحدى أهم مشكلات المجتمع العربي بصفةٍ عامة، انقسامه بين تلك الصراعات الشكلية وعدم قدرته طوال الوقت على الاتحاد والالتفاف أمام الخطر المحدق بهم من كل جانب! كما أن هذين النموذجين يقتربان أيضًا من بطل روايته الأخيرة «أيام وردية» «أمين الألفي» الذي يرصد أيضًا ملامح انسحاب الحياة والاكتئاب وضياع الأحلام الكبيرة، مصريًا وعربيًا مع حضور «فلسطين» في الصورة هذه المرة.
ولعل أكثر ما اهتم به «علاء الديب» وما حرص عليه طوال حياته ليس تقديم نفسه كروائي أو مبدع، بقدر ما كان تركيزه على التعريف بالكتابات الجديدة والأعمال المتميزة، وذلك من خلال مقاله الذي كان ينشره في عدد من الصحف المصريّة منذ السبعينيات تحت اسم «عصير الكتب»، يقول عن هذه التجربة ـ في حوار معه بمجلة الثقافة الجديدة عام 2010 :
( منذ سنوات بعيدة أمارس اختيار الكتب للقارئ، وكلما مرت السنون زاد الأمر صعوبة، وأدركت مدى أهمية هذا الاختيار والمسئولية الواقعة خلفه، يجعلني أحدق عن قرب في حال الكتابة والكتاب، وظروف القارئ وحاجته إلى الكلمات القليلة التي أكتبها.. لا أمارس النقد بمعناه التقليدي أو الأكاديمي إنه اختيار، ومحاولة تذوق مشترك بيني وبين القارئ، أي أنه في الأصل محاولة للبحث عن سياق، و كلمة سياق أدبي، كلمة أظنها تحتاج إلى توضيح، السياق الأدبي الذي أقصده هو بناء وهمي شامخ يشترك في إقامته صانع الأدب ومتلقيه يخرج منه المدعي والمقلد وصانع التجارب، ومحاولات الإبهار كما تخرج منها الشلل المنتفعة والنقد المتعالي الذي لا يقدم بل يُقلد ويُحّير).
قدّم «علاء الديب» في عصير الكتب لعدد كبير من الكتّاب والروائيين من مصر والعالم العربي كله، تبلغ نحو 111 عملاً أدبيًا في مجالاتٍ مختلفة، وربما يفاجأ القارئ حينما يكتشف أنه يتحدث عن «نجيب محفوظ» و«عبد الرحمن منيف» و«خيري شلبي» و«محمد برادة» و«حنّا مينا» ونقرأ معه عن بدايات «جمال الغيطاني» و«رضوى عاشور» وغيرهم من الروائيين المعروفين، جنبًا إلى جنب مع عدد من الروائيين والكتاب المغمورين مثل «أسما حليم» و«شفيق مقار» و«إبراهيم عبد الحليم»، وصولاً إلى كتاب معاصرين مثل «محمد المخزنجي» و«صنع الله إبراهيم» حتى «جار النبي الحلو» و«علاء الأسواني» وغيرهم الكثير.
وهو في عرضه وتقديمه لأعمال هؤلاء الكتاب لا يتوقف للنقد والتحليل، وإنما يكتفي بعرض الأعمال عرضًا موجزًا وذكيًا متوقفًا عند أهم مواطن الجمال لافتًا انتباه القارئ إلى هذه الأعمال، ولا شك أن قارئ هذه المقالات سيجد فيها متعة خاصة لاسيما إذا ارتبطت بعض تلك الأعمال بتواريخ إصدارها وما تعكسه من مفارقات قد يكون بعضها متفقًا مع أيامنا هذه.
كما تحدث في تلك المقالات حديثًا خاصًا عن عدد آخر من الكتب الفكرية في الديانتين المسيحية والإسلامية فيتناول كتاب «رسالة التوحيد» للإمام «محمد عبده»، وكتاب «الصحوة الإسلامية» للدكتور «سعيد العشماوي»، كما يتحدث عن «حقبة مضيئة في تاريخ مصر» للأب «متى المسكين»، وكذلك يتناول كتبًا فنية مثل «السريالية في مصر» الذي كتبه «سمير غريب» حين كان كاتبًا شابًا. وغيرها من كتب ومؤلفات تمثل رؤية بانورامية مهمة للأدب والثقافة في مصر والعالم العربي في تلك الفترة.
\

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً