“على سبيل المثال” لسامح الجباس .. “رواية تشبهنا” و”حكايات ملتقطة” حول “وحوش” التجارب الطبية

2017/06/13
Updated 2017/06/13 at 10:41 صباحًا


كتبت بديعة زيدان:في البداية، ومع قراءتي لرواية “على سبيل المثال” للروائي المصري سامح الجباس، لم أجد ما يجذبني إليها، فوضعتها جانباً، لكن هاجساً ما أعادني إليها، لكونه كان متميزاً في روايته السابقة “حبل قديم وعقدة مشدودة” .. وكنت على صواب، فبعد الصفحات الثلاثين الأولى، والتي كان لابد منها كتمهيد لإدخالنا في تقنياته المتجددة، تبدأ الرواية في دهاليز الجباس ما بين عوالم زمانية ومكانية وشخوص روايتين في واحدة، ما زاد من ثقتي بأن هذا الروائي لديه بالفعل ما يميزه على مستوى “التكنيك”، واللغة، إضافة إلى الحكاية، أو “الحدوتة” كما يسميها المصريّون.
ورواية “على سبيل المثال”، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، هي عبارة عن روايتين متوازيتين يكتب الجباس إحداهما، وتكتب بطلة روايته “بسنت” الثانية بعنوان “العامل البرتقالي”، فترانا نتنقل في فصول الروايتين، في آن.
يتناول الجباس و”بسنت” في روايتيهما، موضوعة التجارب التي يقوم بها أطباء لصالح شركات أدوية كبيرة، مخالفين شروطاً وقوانين منصوصاً عليها دوليا في هذا المجال، ومنها إعلام المتطوع الذي تجرى عليه التجارب إلى مخاطر ما يتعرض له، أو إخباره بأن هناك علاجاً أكثر أمانا يمكن أن يساعد في شفائه.
بأسلوب يغلفه الغموض، ولغة ممتعة مشوقة يحكي لنا الجباس حكاية “بسنت”، التي تعمل في مركز للمساعدة والدعم النفسي للنساء، فتنقلب حياتها رأساً على عقب، بعد أن تتلقى تهديدات عبر بريدها الالكتروني ممهورة باسم “مهيار”، كما كان يرسل لها رسائل تحتوي على معلومات عن حوادث بعينها، مثل “تعتبر الفرقة 731 التابعة للجيش الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية، الأكثر خطراً، لأن مهماتها كانت الأكثر رعباً بين أقرانها .. كانت مهمتها إجراء تجارب ضمن برنامج للحرب البيولوجية، واستخدمت الكثير من الصينيين الأسرى كفئران تجارب، وقد تنوع الأشخاص الذين تم استخدامهم في التجارب بين الأطفال حديثي الولادة إلى كبار السن إلى النساء الحوامل، حتى الأجنة لم تسلم من جرائم هذه الفرقة”، بل إنه أيضاً كان يرسل لها فصولاً كتبتها من روايتها “العامل البرتقالي”، وهو ما أثار استهجانها، ورعبها.
ورأى الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد أن شخصيات وأحداث الرواية تتداخل بشكل “مثير للقارئ، فلا يترك الرواية من يده”، واصفاً إياها بأنها “مغامرة رائعة ومثيرة في الشكل والمضمون، جديرة بالقراءة، يؤكد بها الجباس تفرده في دنيا الرواية”.
وسلط الجباس، عبر “بسنت” ومراجعاتها في المركز من النساء المعنفات، الضوء على بعض القضايا المجتمعية، كهوامش للقضية الأساس (التجارب الطبية غير الشرعية)، ومنها حكاية الشابة نجوى التي تعرضت للاغتصاب من ثلاثة، وفكرت بالانتحار ليأسها من استعادة ماضي ما قبل الحادثة، ولقناعتها بأن لا جدوى من عقاب المجرمين، فهم في السجن يتمتعون بالطعام والشراب، بل ربما يكون المغتصب في حالات أخرى زوجاً لمن قتلها روحاً وجسداً.
وكانت “بسنت” تسرح بخيالها، وهي تستمع للمعنفات، إلى حيث حكايات حقيقية، فبينما كانت تروي نجوى حكايتها، تتذكر بسنت، “درية شفيق”، إحدى رائدات حركة تحرير المرأة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، والتي ينسب إليها الفضل في حصول المرأة المصرية على حق الانتخاب والترشح في الدستور المصري لسنة 1956، هي التي ألقت بنفسها من شرفة منزلها في “30 سبتمبر” العام 1975!
أما الروائي السوداني أمير تاج السر، فرأى في الرواية كما في أعمال سابقة للجباس “احتفاءً خاصاً بالمكان والشخوص، وبراعة في نسج الحكايات الملتقطة من بيئة يخبرها الكاتب جيداً .. أيضاً تمثل اللغة نبعاً متدفقاً يكمل الإبهار” .. ومن الجدير بالذكر هنا أن الروائي الجباس يمارس الطب فعلياً.
وتستمر رسائل “مهيار” مجهولة السبب، بحيث بات هو و”بسنت” يتبادلان معلومات عن انتهاكات طبية عالمية، منها ما أرسلته هي حول الطبيب وندل جونسون من جامعة ولاية أيوا الأميركية، وكان طبيباً نفسياً فيها، “حيث قام في العام 1939 بإجراء تجربة على اثنين وعشرين طفلاً يتيما”، وآخرين مصابين بمشاكل في النطق، حيث قام “بفصلهم مناصفة في مجموعتين، إحداهما تعرضت لعلاج نفسي إيجابي، كانت نتيجته تقدم الأطفال نفسياً مع طلاقة كاملة في النطق، أما المجموعة الثانية، وتعرضت لتعنيف علني من المعالج النفسي أمام الغرباء على أية هفوة يرتكبونها”، وبأساليب بشعة، تدهورت حالتهم النفسية، وأطلق على هذه التجربة اسم “دراسة الوحش”، ليتواصل رصدهما لانتهاكات طبية هنا وهناك على مدار قرن.
وقال الروائي الجزائري واسيني الأعرج عن “على سبيل المثال” .. “هي رواية من عصرنا، وجزء من انشغالاتنا القاسية .. تشبهنا بامتياز، حيث تتلاشى الشرطية الإنسانية أمام الجشع والعنف والخوف”.
وبالعودة إلى الرواية، نجد أنه في مقابل شخوص رواية الجباس، وأبرزها “بسنت”، كانت هناك شخوص رواية “بسنت” نفسها، وهي كما أشرت حملت اسم “العالم البرتقالي”، وهم من المرضى النفسيين المقيمين في مستشفى افتراضي معزول في مكان ناء .. هم من بقوا دون أسماء، وهي إشارة واضحة إلى تهميشهم مجتمعياً .. وهم من لعبوا مرغمين دور فئران التجارب، مع اختلاف تفاعل العاملات في المركز، والأطباء في المستشفى المتخيل مع الضحايا.
وأغنى الجباس روايته التسجيلية أو التوثيقية بالكثير من الحكايات المتفرعة عن الحكاية الأم، وإن كانت جميعاً تحت مظلتها، ولكن دون السير التقليدي في ذلك الخط السردي “المستقيم”، إن جاز التعبير، وهو ما زاد من جرعة التشويق والتجديد في الوقت نفسه.
وقال الجباس لـ”أيام الثقافة”: أرى أن أسلوب السرد في “على سبيل المثال” مختلف عنه في سابقتها، لأنها رواية داخل رواية، أما “حبل قديم وعقدة مشدودة” فكانت ترصد حكايات ثلاث شخصيات مختلفة تعيش في ثلاثة أزمنة مختلفة .. تعمدت الغموض باعتباره إطاراً تشويقياً لجذب اهتمام القارئ، بحيث أعبر به (القارئ) إلى موضوع علمي، وأعرض عليه تفاصيل عالم لا يعرفه عامة الناس، لذلك لجأت إلى الأسلوب التوثيقي، واستخدمت أحداثاً حقيقية حدثت بطريقة سرية، جرت فيها انتهاكات للبشر تحت مسمى “التجارب الطبية من أجل الإنسانية”.
يبقى أن نشير إلى أن الغموض يبقى يغلف الرواية حتى نهاياتها غير المتوقعة، سواء في الكشف عن شخصية “مهيار”، أو تطور الأحداث مع “بسنت”، وهي نهايات في بعضها واضحة، وفي أخرى مفتوحة على التأويلات.

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً