ما الذي يحفز الإرهاب (5): الإعلام

2017/06/19
Updated 2017/06/19 at 9:30 صباحًا

ما الذي يحفز الإرهاب؟ سعت هذه السلسلة إلى التعرف إلى القوى التي تؤثر على اتجاهات تكتيكات الإرهاب، وأهدافه وصنعته. ومنها، يستطيع المراقبون وضع الهجمات الإرهابية في السياق، بل إنهم يستطيعون التنبؤ بالتطور التالي في مسيرة الإرهاب. وقد تأمل الجزء الأول أهمية أيديولوجية الإرهاب ونظريته. وركز الجزء الثاني على كيفية تأثير التطورات السياسية والاقتصادية على هذه الديناميات. وبيَّن الجزء الثالث كيف تترك جهود مكافحة الإرهاب بصمتها على الإرهابيين الذين تحاول إيقافهم. وحقق الجزء الرابع في الكيفيات التي تقود بها التكنولوجيا والقوى الاجتماعية الفرد إلى أن يصبح متطرفاً، وهو ما لن نناقشه هنا.
سوف يبحث هذا الجزء الأخير في كيف لعب الإعلام منذ وقت طويل دوراً مهماً في جعل الإرهاب ما هو عليه. وفي حين أنه يشكل عاملاً مهماً، خاصة عندما يُضاف إلى القوى الأربع المؤثرة الأخرى، فإنه يتمتع بالميزة الإضافية المتمثلة في تضخيم الرسالة والقوة المُتصورة لمجموعة إرهابية ما –والإرهاب بشكل عام.
دعاية الأفعال
ما كان الإرهاب ليوجد من دون الإعلام. فعلى مر التاريخ، قتل الناس المدنيين لتحقيق أهداف سياسية، لكن الشكل الفريد للعنف المعروف باسم الإرهاب يترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإعلام. وفي الحقيقة، ظهر مفهوم الإرهاب فقط بعد تقدم الإعلام الجماهيري، عندما أدى التقدم في التكنولوجيا إلى تمكين النشر السريع وواسع النطاق للأخبار. وبدأ ذلك مع اختراع المطابع خلال “الثورة الصناعية”، والتي جعلت النشر الجماهيري أسرع بقدر يعتد به وأكثر كفاءة من ناحية الكلفة، مما أفضى إلى التوزيع واسع النطاق للصحف اليومية، وخاصة في المدن. وعندما أصبحت وكالات الأنباء خدمات سلكية (حيث تم إرسال القصص الإخبارية عبر خطوط البرق)، تم توزيع أخبار الأحداث بطريقة أسرع، أولاً على المستوى الوطني، ثم لاحقاً على المستوى العالمي بعد استخدام أسلاك البرق تحت البحار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد رفع هذا التقدم التقني الوعي العالمي بالأحداث الإخبارية إلى مستويات غير مسبوقة، مغيِّراً بشكل كامل مفهوم التغطية الإخبارية. كما أفضى تزايد القدرة الإعلامية إلى خلق منافسة أكبر، عندما سعت منظمات الأخبار المتنافسة إلى كسب حصص أكبر في السوق ومن انتباه الجمهور. وأدى ذلك إلى تعزيز صحافة الإثارة وآذن بقدوم عصر الصحافة الصفراء، كل ذلك في إطار الجهود لتعزيز المبيعات.
لم تغب هذه التطورات الدرامية في صناعة الأخبار عن بال المنظرين السياسيين المتطرفين، الذين شاهدوا الطريقة التي تتمكن بها الأخبار من تضخيم تأثير هجماتهم. وبحلول العام 1885، أعلن الفوضوي يوهان موست: “إننا لا نبشر فقط بالعمل في حد ذاته ولذاته، وإنما نوصي أيضاً بالعمل كوسيلة للدعاية”. وهكذا، أصبحت الهجمات الإرهابية الآن أعمال دعاية – أو “دعاية الأفعال”، كما أصبحت تُعرف لاحقاً.
باستخدام وسائل الإعلام لنشر رسالتهم من خلال هجماتهم، تمكن الفوضويون من توسيع وصولهم بشكل جوهري إلى أبعد مما كان يمكن أن يصلوا من خلال نشراتهم المطبوعة الخاصة. وقد ساعدتهم التغطيات الإخبارية في تجنيد أتباع جدد. كما ساعدت أيضاً في خلق تصور عام بأن الفوضويين هم أقوى بكثير وأكثر عدداً مما هم فعلاً، وهي فكرة سوف تستمر بالنسبة للكثير من المجموعات الإرهابية، حتى مع تغير وسائل الإعلام.
مصنوع من أجل التلفاز
هكذا كان الحال مع التلفاز. فبعد نضجه في الستينيات، بدأ بالحلول محل الصحف ليكون أهم طريقة لاستهلاك الأخبار. وظهر أن تصوير الفيديو للأحداث هو أكثر قوة وتأثيراً من الطباعة. وفي حين تم استخدام نشرات الأخبار السينمائية منذ وقت طويل لإحداث تأثير مماثل، فإن البرامج الإخبارية بالبث المباشر جلبت إحساساً مُتزايداً بالأناقة والحميمية. وأصبحت أحداث إطلاق المركبات الفضائية والحروب تُبث حية في غرف معيشة الناس. وفي الحقيقة، أشار الكثير من الناس إلى حرب فيتنام باسم “حرب غرفة المعيشة”، لأنها كانت أول صراع تتم تغطية متلفزاً بطريقة منهجية.
على نحو مفهوم، سرعان ما أدرك الإرهابيون الذين نشطوا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي أهمية التلفاز في ترويج رسالتهم. وبدأوا، مثل أسلافهم الفوضيين، في التخطيط لتنفيذ عمليات مصممة لتعمل كمسرح للإرهاب. ومن الأمثلة على هذه الأعمال اختطاف وقتل الرياضيين الإسرائيليين في دورة الألعام الأولمبية في ميونخ في العام 1972 -أول دورة ألعاب أولمبية يتم بثها على الهواء مباشرة- وكذلك غارة العام 1975 وأزمة الرهائن في مقر منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في فينا.
لكن الاستيلاء على المرافق لم يكن النوع الوحيد من الهجمات المصنوعة للتفاز. فسرعان ما جاءت عمليات اختطاف الطائرات على الأعقاب، وتحولت من مغامرات قصيرة نسبياً إلى أحداث إعلامية مطولة ودرامية ومدروسة، والتي امتدت في كثير من الأحيان لعدة أيام وعلى امتداد عدة قارات. وقد استمرت عملية اختطاف طائرة رحلة “تي. دبلو. إيه 847” في العام 1985 لمدة 17 يوماً. كما هبطت طائرة رحلة الخطوط الكويتية رقم 422، التي تم اختطافها في العام 1988 بعد مغادرتها بانكوك، في مطارات في إيران وقبرص والجزائر خلال عملية استمرت 15 يوماً.
ربما يكون أكثر حدث إرهابي تمت مشاهدته حياً على الهواء في التاريخ عندما قاد الخاطفون رحلة طائرة “الخطوط المتحدة” رقم 175 إلى البرج الجنوبي من مركز التجارة العالمي في 11/9. وقد شاهد ملايين الناس في جميع أنحاء العالم الحدث وهو يتكشف على شاشة التلفاز لأن رحلة الخطوط الجوية الأميركية رقم 11 كانت قد اصطدمت بالبرمج الشمالي قبل دقائق فقط. وتُحدث مثل هذه الهجمات التي تعتمد على المشهدية تأثيراً قوياً ودائماً على الخيال البشري. وقد خلقت هجمات 11/9 وحدها إحساساً عالمياً بالرعب وأثارت رد فعل جيوسياسي سيكون له تأثير عميق وليس له مثيل على الأحداث العالمية في السنوات التالية.
لكن أخبار التلفاز تغيرت بشكل كبير منذ ذلك الحين. فبعدما توسعت شبكات أخبار الكيبل، أصبحت الأخبار الآن شأناً يغطي 24 ساعة في اليوم، 7 أيام في الأسبوع، 395 يوماً في العام. ويجتذب الإرهاب اليوم تغطية تلفزيونية أكبر بكثير مما كان يفعل في الستينيات والسبعينيات، عندما كان عليه أن يتنافس مع العناوين الأخرى للأحداث اليومية على زمن بث لا يتجاوز 30 دقيقة للأخبار الليلية.
أدرك أصحاب القنوات التلفزيونية قوة وسائطهم، واتخذ الكثيرون منهم خطوات نحو الحد من تغطية الدعاية الإرهابية. ومع ذلك، ما يزال اجتذاب المشاهدين وإبعادهم عن المنافسين حافزاً سائداً لزيادة عوائد الإعلان. وهكذا، تستطيع حتى الهجمات الإرهابية الصغيرة نسبياً حشد قدر كبير جداً من التغطية الإخبارية التلفزيونية.
يساعد المزيد من التغطية في تضخيم التهديد الإرهابي والتصورات عن حجم وقوة المجموعات التي تمارسه. وتمكنها التغطية من التسبب بقدر من الرعب أكبر بكثير من الضرر الفعلي. ووفقاً لاستطلاع أجراه مركز غالوب في كانون الأول (ديسمبر) 2015، قال 51 في المائة من الأميركيين إنهم يشعرون بقلق بالغ أو أنهم قلقون إلى حد ما من أن يصبحوا هم أو أفراد من عائلاتهم ضحايا للإرهاب. ومع ذلك، وعلى المستوى الإحصائي، فإن احتمالات أن يموت أميركي في هجوم إرهابي هذا العام هي نحو 1 في 29 مليون. وهي احتمالات ضئيلة للغاية. ومع ذلك، فإن تصور الإرهاب يبقى أعظم بكثير من التهديد الحقيقي الذي يشكله.
دمقرطة الإعلام
يمر الإعلام بتغير مرة أخرى. ويصبح الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية مصادر مهمة، إذا لم تكن أساسية، للإعلام الإخباري بالنسبة للناس. ولم تعد للصحف وشبكات التلفزة الإخبارية درجة السيطرة نفسها على المعلومات التي كانت تتمتع بها في السابق. وقد لاحظت المنظمات الإرهابية ذلك. وعن طريق تجاوز حراس بوابات الإعلام التقليدي، يستطيع الإرهابيون الآن أن يتقدموا مباشرة إلى الجمهور من خلال قنوات وسائل الإعلام الاجتماعية، والمواقع الإلكترونية والمنشورات الإلكترونية الأخرى، مثل المجلات على شبكة الإنترنت. وقد أفضى الإعلام غير المقيد وغير المفلتر إلى انفجار في مقدار الدعاية الإرهابية المتاحة للجميع. وقبل عصر الإنترنت، لم يكن من المحتمل قطعاً أن يرى معظم الناس منشوراً دعائياً لجماعة إرهابية، أو شريطاً صوتياً أو شريط فيديو. أما اليوم، فإن الإرهابيين يستطيعون تسجيل هجماتهم بواسطة كاميرات رقمية وتحميلها على الإنترنت، وهو عمل بسيط يمكن أن يقوم به أي شخص، في أي مكان تتوفر فيه صلة إنترنت. ويمكن الوصول إلى ذلك كله في لحظة.
لطالما غير الإرهابيون دائماً سلوكهم بحيث يتمكنون من استخدام الإعلام على أفضل وجه لخدمة مصالحهم. واليوم، يصبح هؤلاء الإرهابيون باطراد بمثابة إعلامهم الخاص نفسه. ويشكل ذلك، وسوف يستمر في تشكل الطريقة التي يتصرفون وفقها.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: What Drives Terrorism Part 5: The Media
*ستراتيجيك فوركاستينغ (بالإنجليزية Strategic Forecasting, Inc)؛ والمعروفة أكثر باسم ستراتفور (بالإنجليزية STRATFOR)، هو مركز دراسات استراتيجي وأمني أميركي، يعتبر إحدى أهم المؤسسات الخاصة التي تعنى بقطاع الاستخبارات، وهو يعلن على الملأ طبيعة عمله التجسسي، ويجسّد أحد أبرز وجوه خصخصة القطاعات الأميركية الحكومية. تطلق عليه الصحافة الأميركية اسم “وكالة المخابرات المركزية في الظل” أو الوجه المخصخص للسي آي إيه (بالإنجليزية The Private CIA). معظم خبراء مركز ستراتفور ضباط وموظفون سابقون في الاستخبارات الأميركية.
*نائب رئيس وحدة التحليل التكتيكي في “ستراتفور”. ويشرف سكوت ستيوارت على تحليلات المركز لقضايا الإرهاب والأمن. كان قبل انضمامه إلى ستراتفور عميلاً خاصاً لوزارة الخارجية لمدة 10 سنوات، وشارك في مئات التحقيقات عن الإرهاب.
سكوت ستيوارت *- (ستراتفور*) ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً