خريف فلسطين ..بقلم :عبد الغني سلامة

2017/09/25
Updated 2017/09/25 at 8:18 صباحًا


فلسطين بلد زراعي ومعظم سكانها من الفلاحين، لذلك، كان للمواسم الزراعية نصيب وافر من تراثها الشعبي، ويتجلى ذلك في الأمثال الشعبية التي تحكي عن الطقس والرياح ومواعيد الزراعة، وعن مواسم البذار والحصاد، وانتظار المطر، والخوف من انحباسه، وقطاف الزيتون، وتخزين مونة الدار تحسبا لأيام الشتاء والجوع، وعن ليالي السامر في البيادر، وعن مواسم التين والصبر والعكّوب، والتداوي بالبابونج والميرمية، وفي وصف عنب الخليل وبرتقال يافا، والتغني بالربيع والأقحوان وشقائق النعمان، وعن أربعينية الشتاء والريح الشرقية والخوف من الصقيع، وعن حَر الصيف، ومواقيت التصليب في الخريف، عن مكاثي الفقوس، ونوّار اللوز، ورائحة المشمش، ونضوج التين.
هذا الأسبوع، دخل فصل الخريف، ولهذا الفصل نصيب وافر من الأمثال الشعبية، التي تصفه، وتحدد رزنامة الأعمال الزراعية والمنزلية فيه.. فمثلا يعتبر شهر أيلول شهر الصليب (يصادف عيد الصليب 14 أيلول حسب التقويم الشرقي، أو 27 أيلول حسب التقويم الغربي)، يقول المثل الشعبي: “مالك صيفيات بعد الصليبيات”، أي في أيلول ينتهي الصيف ويبدأ موسم الرمان إيذانا ببدء الخريف، “إن أجا الصليب روّح يا غريب”، أي إذا حلّ عيد الصليب يعود المصطافون (المعزبون) في الكروم إلى بيوتهم.
في الخريف، تبدأ التحضيرات للموسم الزراعي، وحسب الباحثة “ناديا البطمة”، في كتابها “فلسطين، الفصول الأربعة”؛ فإن الفلاح الفلسطيني يسمي شهر تشرين الأول بِـ “أَجْرَدْ أول”، لأن الأرض في تلك الفترة تتجرد من غطائها الأخضر، وكذلك تتجرد الأشجار من أوراقها، وفي تشرين الثاني يطلق اسم “الوسم البدري” وهو موسم البذار المبكر.
في هذا الوقت يبدأ دخول البرد، فيقول المثل: “برد تشرين أحد من السكاكين”، و”برد تشارين توقّاه، وبرد الربيع استلقاه”، و”ما في أنقى من قمرة تشرين، ولا أظلم من عتمة كانون”، أي أن السماء تكون صافية بسبب الرياح الشرقية الحارة التي تهب، بينما في كانون يهطل المطر. و”ما بين تشرين الأول والثاني صيف ثاني”، وهذا يدل على الأيام التي تشتد فيها الحرارة كأيام الصيف، لذا تسمى “الصيفية الصغيرة” ويقول المثل: “اللي ما شبع من العنب والتين بشبع من ميّة تشرين”.
وتشهد أشهر التشارين سقوط أول زخات المطر، والذي ينتظره الفلاح بفارغ الصبر، ويستبشر بقدومه خيرا، ولكن الأهالي يعتبرونها أمطارا تحذيرية؛ فيبادرون إلى صيانة مساكنهم المبنية من الحجارة والمسقوفة بالطين، وتتمثل أعمال الصيانة بوضع طبقات من الطين لمنع “الدلف”، أي حتى لا يتسرب الماء من الشقوق، وتسمى هذه العملية “تلييس”.
وفي شهري التشارين، يكون موسم الزيتون، حيث يقصر طول النهار، ويقول المثل: “أيام الزيت أصبحت أمسيت”.
وهي أيضا بداية الموسم الزراعي الثاني، ويكون موعد الحراثة وتهيئة التربة تمهيداً لزراعة الحبوب، ومن الأمثال الشعبية عن موسم الحراث: “في عيد لِدْ، اللي ما شدّ يشد”، بمعنى أن الفلاح الذي لم يتهيأ بعد للحرث والبذر عليه أن يسارع إلى ذلك، ويصادف عيد لِدْ 16 تشرين الثاني، وهي ذكرى تجديد هيكل القديس جورجيوس (الخضر) في مدينة اللد، ويضيف المثل: “عيد لد يا مطر بيهد يا صيف بجد”، و”إن أوسـمَت عَ عيد لِد أُحرث وقِد”، بمعنى إن أمطرت وأصبحت الأرض رطبة أُحرث وابذر، لأنها فترة مناسبة لإعداد الأرض للزراعة، وقد يحدث خلال هذه الفترة (الوسم) حيث يقال “أوسمت الدنيا” عندما يهطل المطر الأول، والوسم البدري هو الذي يأتي قبل عيد لد. وأما الموسم المتأخر، ويسمى وسم “الوخري” فهو الذي يأتي بعده، ويسمونه “الوسم اللكشي” ومعنى تلكّش تأخّر بالسريانية.
وللفلاح الفلسطيني خبرة في استقراء الأحوال الجوية، عن طريق ربطها ببعض الظواهر كحركة النجوم وهجرة الطيور، ولديه قدرة على التنبؤ بخصوبة الموسم القادم أو جدبه، ومن الأمثلة الشعبية في هذا الخصوص: “سنة الزرزور أحرث في البور”، والزرزور هو طير صغير سكني اللون يهاجر إلى بلادنا بعد قطف الزيتون (في تشارين) وفأله حسن عند الفلاحين، ويعني المثل عند قدوم طائر الزرزور أحرث جميع أرضك وابذرها حتى الصخرية منها.
“وسنة القطا بيع الغطا”، والقطا نوع من الحمام البري يأتي إلى فلسطين بكثرة وقت البذار، ويأكل من الحب المبذور، وقدومه فأل سيئ.
ويعتبر ظهور قوس قزح في الصباح علامة توحي بأن المطر غير محتمل الوقوع ذلك اليوم، “إن قوّست باكر احمل عصاتك وسافر”، وعلى العكس إذا ظهر القوس بعد ساعات الظهر، ففي هذه الحالة يكون وقوع المطر محتملا جداً، “إن قوست عصرية دور لك عَ مغارة دفية”.
الأمر الثاني؛ أن الفلاح الفلسطيني ربط أعماله ومواسمه الزراعية بالأعياد، وحسب التقويم المسيحي الشرقي، فمثلاً، يصادف عيد القيامة (وقت الحر)، أمّا عيد الميلاد فهو (وقت البرد)، وعيد البربارة (وقت الأمطار)، وعيد الصليب (وقت قطاف الرمان) وقطاف الزيتون وبداية بشائر المطر، وعيد اللد (وقت زراعة الحبوب).
وقد اقترنت المواسم الزراعية بالأعياد المسيحية، وحسب التقويم الميلادي؛ ذلك لأن التقويم الميلادي يعتمد على دوران الأرض حول الشمس، وبالتالي سيكون لديه مواقيت ثابتة لا تتبدل، يمكن التنبؤ بها والقياس عليها، خلافا للتقويم الهجري، الذي يعتمد على دوران القمر حول الأرض، ما يعني أنه تقويم متغير من سنة لأخرى، وبالتالي سيتعذر ربط المواسم الزراعية به (خاصة بعد إلغاء شهر النسيء).
ومن ناحية ثانية فقد تشكلت هذه المواقيت والمواسم والأمثال الشعبية والخبرات الزراعية على مدى ألوف السنين؛ فقبل مجيء الديانات السماوية لمنطقة بلاد الشام، نجد ترسبات للثقافة الوثنية التي سادت أيام الكنعانيين (الزراعة البعلية نسبة للإله بعل)، وبعد ميلاد السيد المسيح وحتى مجيء الإسلام، أي الفترة التي كان فيها أغلبية السكان من المسيحيين، تشكل معظم النتاج الثقافي المرتبط بالزراعة.
وعندما جاءت جيوش الفاتحين في القرن السابع الميلادي، دخل أهل البلاد في الإسلام بحريتهم ودون إكراه، وظلوا على علاقة طيبة مع إخوتهم المسيحيين، دون وجود لنعرات أو صراعات طائفية، ما سمح باستمرارية تبني المواقيت الزراعية وفقا للأعياد المسيحية.
سينتهي الخريف بعد أشهر قليلة، لكن ربيع فلسطين سيتأخر (قليلاً أو كثيراً).. لكنه لن يأتي إلا بعد إنهاء الانقسام.. ودحر الاحتلال..

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً