ليالي إيزيس كوبيا .. واسيني يروي حكايات مثيرة من سيرة مي زيادة

2018/05/30
Updated 2018/05/30 at 9:43 صباحًا

الايام – بديعة زيدان:أخيراً دوّنتك يا وجعي وهمّ قلبي” .. “أخرجوني من بيتي قبل الساعة الرابعة بعد الظهر، وأوصلوني إلى مكاني في القطار، وغابوا عني، فبقيت جالسة حتى عاد الدكتور والرجلان الآخران، وعندما قام القطار، إذا نحن في منتصف الساعة السادسة. ومنذ الأسبوع الأول في بيروت، ذكّرت ابن عمي الدكتور جوزيف زيادة بوعده، وقلت له إني أرغب في الرجوع إلى بيتي، فأنا بخير ولا أحتاج إلى أي شيء. فطيّب خاطري ببعض الكلمات، وأبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني، وأنا أطالبه بالعودة. حتى استكمل برنامجه في أمري، فأرسلني إلى العصفورية، بحجة التغذية، وباسم الحياة ألقاني أولاد الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل. أحتضر على … مهل …”.
الفقرة الماضية هي جزء من مخطوطة لا يعرف مصيرها يعتقد أنها مذكرات لمي زيادة في مستشفى الأمراض العقلية (العصفورية)، وتم العثور عليها خلال عملية البحث التي أجراها الروائي الجزائري واسيني الأعرج، وهو يعد رواية عن مي، بالتعاون مع الباحثة الكندية اللبنانية روز خليل، في صحراء الجيزة، ودير عنطورة في بيروت، وهي التي ضمنها واسيني روايته “مي: ليالي إيزيس كوبيا”.
و”إيزيس كوبيا” لمن لا يعرف، هو أول اسم مستعار لمي زيادة، التي ولدت في الناصرة العام 1886، لأب لبناني وأم فلسطينية أرثوذكسية، واستخدمته في إصدارها الأول الذي هو عبارة عن مجموعة أشعار بالفرنسية بعنوان “أزاهير حلم”.
تعرضت مي لعدة صدمات في حياتها، كان أقساها خلال ثلاث سنوات حيث توفي والدها في حضنها العام 1929، ومن ثم والدتها في العام 1932، أي بعده بثلاثة أعوام، وقبلها بعام معشوقها الأديب جبران خليل جبران الذي كان يكبرها بثلاث سنوات، وتوفي في عمر الثامنة والأربعين بسرطان الكبد، ما دفع أصدقاءها إلى إقناعها بالتوجه إلى أقاربها في بيروت، الذين بدل أن يخففوا عنها مآسيها، أودعوها “دار المجانين”، وخاصة ابن عمها جوزيف .. وقال واسيني إنه، لو أسعفه العمر، “سيرفع شكوى قضائية ضده في المحاكم اللبنانية للجريمة التي ارتكبها بحق مي”.
وبالعودة إلى جوزيف، فقد كشفت الرواية أن علاقة حب كانت تربطه بابنة عمه مي زيادة، إلا أنه خذلها حين غادر دون مقدمات بيروت متوجهاً إلى فرنسا لإكمال دراسته، إلا أنه تزوج هناك من فرنسية تكبره بقرابة العشرين عاماً، ومع ذلك، وحين تملكها الشعور بالاكتئاب بعد فقدان والدتها على وجه الخصوص، أخبرته دون غيره عن حالتها، فأقنعها بزيارة بيروت، كما أصدقاء لها، هو الذي حصل على “توكيل منها، وبكامل إرادتها، بإدارة أموالها وممتلكاتها”، هي التي ورثت عن والدها أموالاً طائلة، إلا أنه خذلها مرة أخرى بأن أرسلها إلى “العصفورية” التي هي أول مصحة للأمراض العقلية في لبنان، حيث بات لقب “العصفورية” هناك يطلق على أي مستشفى للأمراض العقلية، إلا أن “العصفورية” الأولى التي شيدت العام 1890 بإذن من السلطة العثمانية، أغلقت أبوابها كدار للمجانين، وباتت “جنة للطيور”.
الرواية تتحدث عن الفصل الأخير في حياة مي زيادة، أي الثلاثمائة ليلة وليلة التي قضتها في “العصفورية”، وهناك الكثير من الحكايات التي يرصدها واسيني بأسلوب روائي شيق بعيداً عن السيرة الذاتية بأطروحاتها الكلاسيكية، فكانت دائما ما تحاول إقناع الجميع من أطباء وممرضين بأنها “ليست مجنونة، بل مصابة باكتئاب جراء وفاة والدتها”، لكن الإجابة الجاهزة كانت بأن لا مجنون يعترف بجنونه، فقررت الإضراب عن الطعام حتى وصلت إلى حافة الموت، فلجأ الأطباء إلى “التغذية القسرية”، المعاناة الأكبر بالنسبة لها في الفترة التي قضتها هناك، حيث تعرضت لجروح وتقرحات في فمها بسبب ذلك.
في “العصفورية”، كان من بين الممرضات من يتعاطفن مع مي، أبرزهن “سوزي” وأطلقت عليها مي لقب “بلو هارت” (القلب الأزرق)، وهي الممرضة التي كانت منبهرة بتاريخ مي الإبداعي على كافة الصعد، فكانت تساعدها وتعمل على رفع معنوياتها، والتخفيف من تدهور حالتها الصحية على المستويين الجسدي والنفسي.
ولا تكتفي الرواية بالحديث عن حكايات مي في “العصفورية”، بل عادت إلى محطات سبقت ذلك، وجدها واسيني ربما مفصلية في حياتها السابقة، كـ”دراستها وحياتها في الناصرة”، و”حقبة العنطورة”، حيث أثقلها “التعليم الديني المسيحي” الذي فرضته العائلة عليها، هي التي قالت ذات مرة “وجهوا حبّي للرب أكثر من حبّي لوالديّ”، ومن ثم توجهها إلى مصر برفقة أسرتها، حيث كان والدها الصحافي رئيساً لتحرير “المحروسة”، وهي التي احتضنت مقالات لها بالعربية، هي التي بدأت كتاباتها بالفرنسية.
ومن بين المحطات التي لم يقفز عنها واسيني علاقة مي زيادة بجبران خليل جبران، حيث البداية كانت باختيارها لإلقاء كلمته، هي التي كانت لا تعرفه شخصياً، في تكريم صديقه خليل مطران لمناسبة تقليده وساماً مهماً من الخديوي عباس حلمي في الجامعة المصرية القديمة .. “كان عليّ أن أكون مسؤولة في قراءة رسالته كما لو أنه هو من قرأها”.
وكشف واسيني عن جانب لربما يكون خفياً في حياة مي زيادة، حول علاقتها بصديقتها هيلينا التي تكبرها بعدة سنوات .. هلينا كانت تعلم مي العزف على البيانو، وهي التي كانت تصفها مي بـ”أمي هيلينا”، موحياً بل ومصرحاً في أحيان إلى علاقة تجاوزت الموسيقى باتجاه مناح روحانية وربما جنسية.
وكان من بين المحطات “الموجعة” شعور مي زيادة بالخذلان ممن اعتبرتهم أصدقاء مقربين، وكانوا رواداً شبه دائمين لصالونها، مثل: طه حسين، وعباس محمود العقاد، وسلامة موسى، وغيرهم .. هي التي نقل واسيني عنها قولها “كان قلبي من جيش الأصدقاء هناك (مصر)، إذ لا أحد حرك إصبعه الصغيرة، لكن يجب قبول منطق الدنيا أيضاً كما هو، لا كما نريده. ما قرأته من تصريحات العقاد، طه حسين، سلامة موسى، وغيرهم، جرح قلبي وقسمه إلى نصفين. وجعلني أفكر في كل ما مضى، وأتساءل: أية حداثة، وأي مثقف ملتزم، عندما ترى صديقك الذي يشترك معك في هموم الدنيا، ينساك، بل يوغل فيك سكينة صدئة؟”.
يشار إلى أنه، وبعد أشهر من احتجازها في “العصفورية”، انبرت صحيفة “المكشوف” اللبنانية دون غيرها لتسليط الضوء على ما حصل مع مي والتعامل السيئ لأقاربها، فانبرى المحامي فؤاد حبيش للدفاع عنها، وهو صاحب الصحيفة ذاتها، وربح قضية كانت كفيلة بإخراجها من “العصفورية”، حيث أقامت فترة في مستشفى خاص ببيروت، ثم خرجت إلى بيت مستأجر حتى عادت لها عافيتها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني، الذي استأجر لها البيت عدة أشهر، ثم عادت إلى مصر.
في العام 1941 توفيت في مستشفى المعادي بالقاهرة عن عمر 55 عاماً، ولم يمش وراء جثمانها في جنازتها، رغم شهرتها ومعارفها وأصدقائها الذين هم بغير حصر، وصالونها الذي كان علامة فارقة في القاهرة سوى ثلاثة ممن حافظوا على وفائهم لها، وهم: أحمد لطفي السيد، خليل مطران، وأنطوان الجميل.
وتعتبر الرواية هي الأولى عربياً التي تستدعي إبداعياً حياة الكاتبة الكبيرة مي زيادة لحظة مأساتها بمستشفى الأمراض العقلية والنفسية (العصفورية) في بيروت، حيث تتحدث عن مخطوطة ضائعة بقيت مجهولة المصير، تحتوي على الكثير من الأسرار .. هي رحلة شائقة بين مختلف الأماكن: البيوت الواطئة، وتلك المعلقة في الجبال، والأديرة، والمستشفيات، والمصحات، والمهاجر التي مرّت عبرها المخطوطة، التي يبقى الحصول عليها، حال وجودها، إنجازاً كبيراً .. مما هو مؤكد، حسب العديد من المصادر أن مي زيادة كتبت مذكراتها في “العصفورية”، ولكن هل ما تزال هذه المذكرات على قيد الحياة في مكان ما؟ .. وهل قتلت أو اغتيلت أم انتحرت بيد صاحبتها

Share this Article