بيتا فلافل الكاتب: نهى أبو سمرة

2018/12/12
Updated 2018/12/12 at 8:37 صباحًا


في الحي الاتيني بباريس على اليسار من نهر السين، جذبتني جدران الحي وتاريخها المعتق، هناك تجد تحفة الفن والعمارة القوطية “كنيسة النوتردام”، حيث تشم رائحة “فيكتور هوجو” في كل زاوية من زوايا المكان وترى وجه غجرية راوغت عبث البقاء بأقبية نوتردام العتيقة، وتسترجع عذابات قوم بلا هوية بلا قومية بلا وطن ربما التسكع هو هويتهم الوحيدة.
مشيت ضائعة هناك أفتش في ذاكرة المكان وأتأمل جدران ممزوجة برطوبة الماضي ومبانٍ تفوح بعبق التاريخ وأريج الزمن، متحف بانتيون، جادة سان ميشال وذاكرة ثمانية قرون تختزنها حجارة السوربون. حنين الغريب اقتادني إلى البحث عن المقهى العربي الذي أسسه الأديب المكي طاهر الصباغ في العام 1926، والذي قرأت عنه في كتاب البيروتي شكيب أرسلان “شوقي أو صداقة 40 سنة” هذا المقهى الذي كان ملتقى شوقي وعبد الوهاب، لم أجده للأسف بين مقاهي الحي المنفردة برونقها الخاص ربما تغير اسمه أو حل محله مقهى بصبغة عصرية رغم حكايا روما وقرطبة والشرق المدثره بين أوراق الشجر هناك، لكني وجدت “le procope” المقهى الأشبه بمتحف أنتيكات صغير والشاهد على تيارات أيديولوجيه مختلفه انولدت من رحم الفكر بدءً بعصر التنوير، فطاولة فولتير وفناجين القهوة المرصوصة بأناقة كأناقة ديدرو وروسو لا زالت على حالها هناك، حتى ظهور الحركة السريالية على يد أندريه بروتون وعبوره الآمن نحو المتناقض والوجودية على يد جان بول سارتر.
وهناك أيضاً حفر أيقونات عالمنا العربي أسماءهم على عباءة الوقت المنقوش في ذاكرة هذا المقهى أبرزهم طه حسين، وأبو الرواية نجيب محفوظ، وفلاديمير تماري، وابن الناصرة نبيل خوري، ومحمود درويش بنكهته الذائبة في رائحة القهوة المتناثرة بكل زاوية من زوايا المكان، والعظيم سهيل ادريس صاحب رواية الحي الاتيني الذي خيل لي طول الوقت أنني أركض بين سطورها وما تحمله أوراقها من وصف دقيق لباريس حلم الكثير من الشباب العربي الحلم الذي بدأ بالرحيل.
بين تعاريج الحي وضجيج الموسيقى وجنون الرقص واختلاف الأعراق بجمال ألوانها ولهجاتها المختلفة مشيت ووسط هذا الازدحام وجدت شاب وصبيه جالسين بمقهى يغنون أغنية عراقية اعتدت على سماعها كفلسطينية فالفن العراقي متأصل بكل بيت فلسطيني “لا خبر لا جفيه لا حامض حلو لا شربات” مشهد جميل كجمال اللوحة السومرية التي تزين جدران “اللوفر” وتمثل عازفاً على آلة السيتار وراعياً يعزف على الناي.. موسيقى ألوان سومر وأكاد كانت تملاء المكان. مسحة الشجن باللحن العراقي الدافيء ذكرتني بتجاعيد كف “سميح القاسم” وهو يهديني “معلقة بغداد”، ابتسامته حين يتذكر حكاياته الطريفه مع الجواهري وذكرياته مع بلند الحيدري بشوارع القاهرة والنيل والشيخ امام والربابة والخال وسيرة الهلالي سلامة..
في هذا اللحن صوت “السياب” ووجه كل غريب يلعن زمان الحروب في ليالي السفر.. ليالٍ علمته الحنين ليرسم على نافذة الغربة عيون الوطن.. في هذا اللحن صوت جداتنا وهن يغنين لمشعل ابن شمال فلسطين الذي ثار على قانون التجنيد الاجباري التركي في الحرب العالمية الأولى التي كان يطلق عليها السفر برلك “ع الأوف مشعل أوف مشعلاني ما اني تبليته هو الي تبلاني .. سلم ع التين وسلم ع الدوالي.. سلم عالأرض علي زعلانة.. ياما كعدنا ع النبعة في الوادي.. ليالي السمر في شهر نيسان”، مشعل الذي تحول رمز لكل ثائر وأغنية وطنية تراثية تصف معاناة الفرقه والسجن والشتات والمخيم. في هذا اللحن خراريف جدتي عن جفرا وزريف الطول والأهل والدار ورائحة الزعتر والخروب والندى بحواكيرنا الرطيبة.. خبز الطابون وأغاني النسوة ع النبعة وحكايا صديقاتي “ندوى” و”سؤدد” عن قصة حب “حزام وعفرا” وشموخ الجبال التي لا تلين.. في هذا اللحن أغنية الغيم على لحن المطر وصرخة الخليلي عز الدين المناصرة فينا أن نعود فالبلاد طلبت أهلها.
وسط حنين الذكريات مشيت أفتش عن مطعم حتى فوجئت بيافطة مكتوب عليها “بيتا فلافل” يافطة لمطعم فلافل شعبي، تأملت اليافطة وكان لدي رغبة شديده في تعرية ألوانها لعلي أجد أسفل اللون سوق الخان بنابلس ومطعم “بريك”، لم أتردد في الدخول، دخلت وطلبت ساندويتش فلافل وبعد أن أكملت الساندويتش لأحاسب سألني النادل ان أعجبني قلت له أن مذاقه ذكرني بمطاعمنا الشعبيه بفلسطين، ضحك وقال قصدك المطاعم الشعبيه باسرائيل فهذا طبق اسرائيلي.. ضحكت كثيراً يبدو أن ضحكتي الساخرة استفزته فذهب ليحضر لي كيس الخبز وقال لي في غضب اقرأي ما مكتوب على الكيس أعتقد أنك تقرئين العبرية وان لم تقرأيها فبالطبع تعرفين شكل حروفها جيداً، لم أجيبه حتى لا أدخل في سجال عقيم بين اللغه العبرية وأصلها السامي وفرضية أنها كانت مجرد لهجة من لهجات الكنعانية القديمه، ومتى أصبحت لغة؟! . لكنه كان يحاول اثارة غضبي فقال بكل وقاحه أن الفلسطينيين سرقوا التراث الاسرائيلي وتغنوا أنه لهم. ضحكت بسخرية، فهو يعلم جيداً أن سرقة التراث العربي والفلسطيني هي حرفة اسرائيلية بإمتياز ثم رددت على مسامعه حروف راشد ابن قرية أم الفحم: “من أين هذي الأرض ان ترابها نار فكيف حملت نار الموقد.. من أين هذا القمح كيف سرقته وبذوره من دمعنا المتجمد يا سيدي أنا لو عصرت رغيف خبزك في يدي لرأيت منه دمي يسيل على يدي”..
وقلت له ببساطة فلاحة فلسطينية أن الأرض لنا وأنتم عابرين فقط ككل من احتلنا.. في فلسطين اسمي وتاريخي وأوراق الزيتون الممتده على سرير الوطن، الماضي في فلسطين لنا والحاضر لنا والغد المتوج بأحلامنا….

Share this Article