عصر الإسفاف العربي … بقلم :يوسف قطينة

2015/03/12
Updated 2015/03/12 at 10:33 صباحًا

فهرس
لعل اصدق وصف ينطبق على العصر العربي الحاضر هو عصر الإسفاف والابتذال.. وهذا الوصف ينطبق اليوم على كل نواحي الحياة العربية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والعلمية. وقد بدأ فجر عصر هذا الإسفاف بالبزوغ عقب حرب تشرين الاول عام ١٩٧٣ التي شنها الجيشان المصري والسوري في جبهتي السويس والجولان، سعيا لاستعادة الاراضي التي احتلتها اسرائيل في عدوان الخامس من حزيران عام ١٩٦٧.
وكان من المفترض ان يجني القادة السياسيون ثمار الانتصارات الكبرى التي حققها الجنود المصريون والسوريون، خاصة في الأيام العشرة الاولى من تلك الحرب، ولكن الرئيس المصري الراحل انور السادات وأد تلك الثمار وأهدر تلك الانتصارات، حين سلم طواعية القرار السياسي الى الادارة الاميركية، وخاصة الى “صديقه العزيز” هنري كسينجر” وزير الخارجية الاميركية آنذاك، وطرح شعاره الأشهر وهو: “ان تسعة وتسعين في المئة من اوراق اللعبة في يد الادارة الاميركية”.
وهكذا لجأ الى الحلول الانفرادية”، وأوقف المعركة على جبهة سيناء وترك الجيش السوري وحيدا يحارب في جبهة الجولان، وأعطى الفرصة لإسرائيل لنقل معظم قواتها من جبهة السويس الى جبهة الجولان، وهكذا خسر الجيش السوري ما كان حرره من اراض في بداية المعركة وأعادت اسرائيل احتلال هضبة الجولان من جديد.
وهكذا استقالت مصر، بقرار من انور السادات، من دورها التاريخي في قيادة العالم العربي، وبدأ عصر عربي جديد اتسم سياسيا بالتمزق والفرقة وخبا عصر الوحدة العربية وسطع فجر عصر الاقليمية الضيقة، حين رفع في مصر شعار “مصر اولا” وما تلاه من شعارات اقليمية كالدعوات الى الفرعونية، والانسحاب من العالم العربي وقضاياه الرئيسة، خاصة القضية الفلسطينية التي كانت قضية العرب المركزية الاولى، وأوصى السادات لإعلامه المرئي والمسموع والمقروء بمهاجمة العرب عامة والشعب الفلسطيني خاصة، وتحميل القضية الفلسطينية كل ما يعيشه الشعب المصري من ازمات مالية وضائقات اقتصادية في كل مجالات الحياة.
وسار السادات في طريقه لإخراج مصر من الساحة العربية والاقليمية، والدولية بعيدا، وكان توقيعه اتفاقية الصلح المنفرد مع اسرائيل المعروفة باتفاقية “كامب ديفيد” تتويجا لمنهجه في سجن مصر داخل حدودها الجغرافية، واستقالتها من ادوارها القيادية في العالم العربي والقارة السمراء ومن تأثيرها وقوتها الناعمة في العالم الذي عرف بذلك “دول عدم الانحياز”.
وهكذا خرجت اكبر دولة عربية من الصراع العربي – الاسرائيلي وأصبحت اسرائيل سيدة المنطقة تصول وتجول وتعربد في المنطقة دون رادع ودون هيبة من احد. ولم لا تعربد في المنطقة وقد اخرجت مصر من الصراع في الاتفاقية التي وصفها مناحيم بيغن رئيس وزرائها آنذاك، والتي وقعها مع السادات في البيت الابيض ، برعاية الرئيس الاميركي جيمي كارتر، وصفها بيغن بأنها توازي في اهميتها إعلان اقامة اسرائيل في ايار من عام ١٩٤٨؟
وإثر تلك الاتفاقية اخذت اسرائيل سريعاً في تنفيذ اجندتها بتصفية القضية الفلسطينية، فكان ان غزت لبنان في عام ١٩٨٢ للقضاء على الفصائل الفلسطينية المقاومة فيه، واحتلت اول عاصمة عربية، ودخل جنودها قصر الرئاسة اللبناني في بيروت، واستطاعت اخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، حيث توجهوا بعيداً عن حدود الوطن فلسطين الى المنافي في تونس. كما قامت اسرائيل بتدمير المفاعل النووي العراقي، حيث ارسلت طائراتها لتدمير المفاعل، في الوقت الذي كان يجتمع فيه مناحيم بيغن مع الرئيس انور السادات في مصر.
وقد حاول العراق بقيادة الرئيس العراقي صدام حسين آنذاك القيام بقيادة العالم العربي، والحلول محل مصر، وكان مؤهلاً للقيام بهذا الدور لأنه يملك ثروات نفطية هائلة هذا عدا عن الثروة الزراعية الضخمة، حيث يخترقه نهرا دجلة والفرات، ولذا عرف قديماً ببلاد الرافدين وعرفت اراضيه بسواد العراق لشدة خصوبتها وخضرة مزروعاته التي لشدة اخضرارها تقارب اللون الاسود.
ولكن الرئيس العراقي استدرج الى الحرب العراقية -الايرانية، ووقع في الفخ الذي اعد له، وكان الهدف من ذلك ان يضرب اعداء الامة عصفورين بحجر واحد: الاول استنزاف العراق وتدمير جيشه الذي كان سادس جيش في العالم وتمزيق العراق، وحرمان العرب من ظهيرهم الاستراتيجي الاول فيما كان يعرف بالجبهة الشرقية، حيث حارب الجيش العراقي في الجبهة السورية خلال حرب ١٩٧٣ وحمى دمشق من الاحتلال الاسرائيلي، كان الطريق ممهداً امام الجيش الاسرائيلي للتقدم صوب العاصمة السورية، بعد ان اوقف السادات القتال على جبهة السويس دون التنسيق مع القيادة السورية. والعصفور الثاني اجهاض الثورة الايرانية الوليدة.
وكان ان خرج العراق من حرب السنوات الثماني مع ايران منهكا، ولكن كانت ما زالت لديه بعض من القوة، ولذلك استدرج مرة اخرى الى احتلال الكويت، بعد ان زينت له السفيرة الاميركية ان الولايات المتحدة لن تتدخل اذا اجتاح الكويت، وما ان وقع صدام في الفخ واحتل الكويت، حتى جيشت الادارة الاميركية وحلفاؤها من الغرب والعرب الجيوش الهائلة، وشنت عليه حرب الخليج الثانية فخرج مدمراً ممزقاً. واحتل الجيش الاميركي العاصمة بغداد، وأصدر الحاكم العسكري الاميركي للعراق قراره الاول بحل الجيش العراقي، وهكذا اصبح العراق القوي الموحد اثرا بعد عين بحيث استطاع قلة من التكفيريين الظلاميين مؤخراً ممن يعرفون باسم «داعش» وينتحلون اسم الاسلام كذبا ويتاجرون بشعار الخلافة احتلال اجزاء واسعة من العراق، والعبث فيه فساداً من قتل وذبح وتدمير لتراثه الحضاري الذي لا يقدر بثمن. وسرقة نفطه وبيعه بثمن بخس دراهم معدودة لتمويل عملياتهم الاجرامية، وكذا بيع كنوزه الأثرية التي لا تقدر بثمن.
وفي ذات الاطار فإن القضية الفلسطينية، بعد خروج مصر من الصف العربي، لم تعد قضية العرب الاولى، وترك الفلسطينيون وحدهم امام قوة اسرائيل الباطشة التي شرعت عقب توقيع اتفاق «كامب ديفيد» في ضم القسم الاكبر من اراضي الضفة الغربية، وسارعت في خطواتها الحثيثة بتهويد القدس بعد ان ضمتها الى القدس الغربية بزعم انها «عاصمة اسرائيل الابدية» وكان ان جاءت الانتفاضة الاولى حيث بهر الشعب الفلسطيني العالم بخروجه عاريا من السلاح الا من الايمان بعدالة قضيته وبحجارته مقاوما الاحتلال وساعيا الى تحرير ارضه وحكم نفسه بنفسه.
وكان ان اسفرت الانتفاضة الاولى عن اتفاق اوسلو عام ١٩٩٣ واستطاعت اسرائيل وأد الانتفاضة الاولى والمماطلة في تنفيذ ما التزمت به في ذلك الاتفاق رغم عيوبه الكثيرة، وما اغفله من قضايا رئيسية مثل قضية القدس وحق عودة اللاجئين وحدود الدولة الفلسطينية.
وجاءت الانتفاضة الثاني «انتفاضة الاقصى» عام ٢٠٠٠ وسارعت اسرائيل بقيادة رئيس وزرائها آنذاك ارئيل شارون الى اعادة احتلال الضفة الغربية من جديد وحصار المقاطعة حيث الرئيس عرفات الذي عانى الم الحصار والعزل ولم يهب احد من الزعماء العرب لنجدته ولم يتصل به احد منهم، وتركه وحيدا يعاني الجوع والمرض والعزل حتى رحل مسموما كما يجمع كل القادة الفلسطينيون، وكل الظروف التي احاطت بموته، حيث عطلت كل المحاولات لإجراء تحقيق في ظروف رحيله.
وبعد رحيل عرفات وتسلم الرئيس محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، فإن الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي دخلا في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة طويلة «ماراتونية» دون تحقيق اي شيء، لأن نتنياهو اتخذ من تلك المفاوضات سبيلا للاستمرار في تهويد القدس وزرع الضفة بالمستوطنات، وأصبح حلم الفلسطينيين في اقامة دولتهم سرابا وكما حكى عن خيال الطيف وسنان.
وجاء ما سمي افتراء الربيع العربي وإنما هو ربيع اسرائيلي، حيث بدأت خطة الفوضى الخلاقة التي اعلنتها كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الاميركية السابقة، وجيء بالتكفيريين لينوبوا عن اسرائيل والغرب في تمزيق الدول العربية وتفتيت جيوشها وإهدار ثرواتها وتمزيق نسيجها الاجتماعي، وإذكاء الصراع السني – الشيعي حيث غدت ايران العدو الاول لدى العديد من الدول العربية، وأصبحت اسرائيل حليفا.
وهكذا بدأت مرحلة الحروب العربية – العربية والصراع الاسلامي – الاسلامي حيث تمزقت سورية وليبيا والعراق واليمن على الطريق ومصر تتعرض لحملة ارهابية واسعة على ايدي الجماعات التكفيرية الظلامية تريد استنزاف جيشها وتدمير ثرواتها وتمزيق نسيجها الاجتماعي من خلال استهداف الاقباط. والامر المستنكر ان دولاً عربية تقوم بالدور الأساس في تنفيذ خطة الفوضى الخلاقة من خلال انفاق الملايين من الدولارات لتسليح التكفيريين ليسعوا في الأرض فساداً، ليشردوا ويذبحوا ويقتلوا ويدمروا ويهدموا ما بناه الأجداد وعبر مئات السنيين، وليثيروا الفتن الطائفية باستهدافهم المسيحيين وغيرهم مما يدعوهم البعض بـ «الأقليات»، بينما تقبض تلك الدول العربية يدها عن مساعدة الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، حيث عشرات الآلاف من الغزيين يعيشون في العراء جراء العدوان الاسرائيلي الأخير، ولم يصل دولاراً واحداً مما أعلن لإعادة الإعمار، وكذلك فلسطينيو الضفة الغربية يعانون من حصار اقتصادي، حيث تحتجز اسرائيل اموال المقاصة ما يجعل الحكومة الفلسطينية عاجزة عن دفع رواتب موظفيها كاملة.
ومع ذلك تجد من القادة العرب من يتحدث عن إحياء التضامن العربي وإنشاء قوة عربية مشتركة ليس للدفاع عن الشعوب العربية وإنما لمحاربة ما يسمونه «التمدد الايراني» في المنطقة.
ولا مراء في أن هذا العصر العربي الراهن هو عصر الإسفاف والابتذال، وعودة الى عصر ملوك الطوائف في الاندلس، حيث الفرقة والانقسام والتخاذل والاستعانة بالعدو على بعضهم بعضا فكان ان ضاعت الأندلس، حتى قالت عائشة أم أبي عبد الله الصغير آخر حاكم عربي في الأندلس حين رأته يبكي وقد أخرج من مقره الى غير رجعة على يد الإسبان:
إبك مثل النساء ملك مضاعا *** لم تحافظ عليه كالرجال

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً