اليسار الجديد ومتاعب الإتحاد الأوروبي…بقلم:رغيد الصلح

2015/10/01
Updated 2015/10/01 at 9:39 صباحًا

index
مع صعود اليسار الأوروبي الجديد تكاثرت الرهانات على مستقبل عصيب ينتظر الإتحاد الأوروبي. وبدأت هذه الرهانات أخيراً مع أزمة اليورو وما تحمله من أخطار على الاقتصاد الأوروبي المشترك. وتصاعدت الرهانات والتوقعات بصدد تفكك الأتحاد مع الأزمة العاصفة التي أثارتها قضية المهاجرين. لقد كانت اتفاقية شنغن الضحية الاولى لأزمة المهاجرين، ولكننا، كما يقول الكثيرون، نشهد اليوم بداية الأزمة ولم نقترب من نهايتها بعد. هذا يعني ان الاتحاد سيواجه المزيد من المتاعب التي ستؤثر على تماسكه. اخيراً لا آخراً، يواجه الاتحاد الاوروبي تحدي صعود اليسار الراديكالي كما تدل الانتخابات اليونانية التي أعادت حزب «سيريزا» الى الحكم، وانتخابات حزب العمال البريطاني الداخلية التي رفعت العمال الراديكاليين بزعامة جيريمي كوربن الى قيادة الحزب. وفي هذه الدول، فضلاً عن دول أوروبية عديدة غيرها مثل اسبانيا، نشهد أحزاباً وتجمعات أخرى لليسار الراديكالي تتقدم الصفوف وتحتل المقاعد الأمامية في رحلتها الى قصور السلطة.
يعتقد البعض ان الإتحاد الأوروبي قد تمكن من عبور الأزمتين الاولى والثانية بسلام، فهل يتجاوز معضلة الصعود العاصف لليسار الراديكالي من دون ان يصاب بعطب قاتل؟ في التاريخ المشترك للأحزاب اليسارية وللمشروع الأوروبي، لم يعرف عن تلك الاحزاب دعمها لذلك المشروع. لقد جاءت أكثرية آباء المشروع الأوروبي ومؤسسيه وواضعي بذوره من صفوف اليمين: من التيار الديغولي الفرنسي، والاحزاب المسيحية الديموقراطية في المانيا وخارجها، ومن المتعاطفين مع الادارة الاميركية التي أطلقت مشروع مارشال. أما اليسار الاوروبي، وباستثناء بول هنري سباك، الزعيم الاشتراكي البلجيكي الذي كان من رواد المشروع الاوروبي، فكان ينظر الى مشروع السوق المشتركة بحذر ثم تطور الى اهتمام محدود بالإتحاد وبقضايا العلاقات الدولية عموماً والى تركيز على قضايا الصراع داخل الدولة القومية الاوروبية.
تبدو هذه الظاهرة واضحة في المانيفستو الانتخابي لـ «حزب الاشتراكيين الاوروبيين». ويضم هذا الحزب، في الحقيقة، سائر الاحزاب الاشتراكية العاملة في دول الاتحاد الاوروبي، هذا فضلاً عن أحزاب وحركات ديموقراطية حليفة للإشتراكيين الأوروبيين، مما يضفي على المانفيستو الصادر خلال ربيع العام الماضي أهمية كوثيقة تعبّر عن آراء أحزاب يسار الوسط الاوروبية. فالملاحظ ان المانفيستو يعدد عشر قضايا تستأثر باهتمام اليسار الاوروبي. بين هذه القضايا تتطرق تسع منها بشيء من التفصيل الى مواقف ومقترحات ومشاريع اليسار على صعيد الحوكمة الاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد الاوروبي. ما عدا ذلك فإن المانيفستو يخصص بنداً واحداً يشمل كل ما له علاقة بفكرة الإتحاد نفسه وبالعلاقات بين دوله وعلاقاته الخارجية. ويأتي هذا البند – وهذا مؤشر إضافي على مدى أهمية قضايا السياسة الدولية لدى الحزب – كآخر بند من البنود العشرة.
فضلاً عن هذين المظهرين لمحدودية الاهتمام بالعلاقات الاقليمية التي تشكل جوهر المشروع الاوروبي، فإن الاشتراكيين الاوروبيين يقدمون في المانيفستو مؤشراً إضافياً على محدودية اهتمامهم بذلك المشروع، اذ ان اللغة التي يستخدمونها في صوغ هذا البند الاخير من الوثيقة تبدو أقرب الى الصياغات اليمينية التقليدية للمواقف المتعلقة بالعلاقات الاقليمية والدولية. فالهدف الرئيسي للمانيفستو هو «تعزيز النفود الاوروبي في العالم». وحتى يتحقق هذا الهدف، فمن الضروري ان تصبح اوروبا قوة عالمية. لماذا؟ لان هذه القوة ستسمح لاوروبا ان تدعم «السلام والديموقراطية والرفاهية عبر العالم». وتأكيداً لهذه النوايا، يتعهد المانفيستو «بمحاربة التفاوت الكبير في الثروة والقوة بين الدول والفقر المنتشر في دول كثيرة». وعلى رغم أهمية هذه التعهدات، فإنها تفتقر الى الإيضاحات الأولية حول مغزى قوة اوروبا العالمية ودورها الدولي. فأوروبا ليست طارئاً جديداً على السياسة الدولية، وليست تجمعاً لعدد محدود من الدول الصغيرة. استطراداً، اذا تمكن اليسار الاوروبي من تحقيق اهدافه في تعزيز النفوذ الاوروبي في العالم، فكيف يضمن العالم ألا يستخدم هذا النفوذ ضد مصالح الشعوب الاخرى، وعلى نحو يتناقض مع مبادئ اليسار التي تحفز على احترام التضامن الاممي والتعاون بين الشعوب؟ ما هي الضمانات ضد ظهور غي موليه جديد؟
الإجابة على هذه الاسئلة تقدم دليلاً على ان اليسار يخص هذه القضية بالاهتمام، وانه حريص على ان يتقدم على اليمين في مضمار التنافس على جائزة الجدارة الاممية. ولكن تاريخ اليسار الاوروبي يدل، كما يقول ريتشار دانفي استاذ العلوم السياسية في جامعة داندي الاسكوتلندية، في كتابه «في تفنيد الرأسمالية: احزاب اليسار والتكتل الاقليمي الاوروبي» على ان الاشتراكيين الاوروبيين لا يحرصون على مقارعة الاحزاب اليمينية في ساحة المشروع الاوروبي، بل في ساحات الدول القومية. فاليسار الاوروبي الذي سعى الى تقديم إجابات على الاسئلة المطروحة أعلاه وعلى أسئلة عديدة مشابهة تتصل بالعلاقات الدولية انقسم الى التيارات الرئيسية التالية:
التيار الاول الذي برز مع قيام السوق الاوروبية المشتركة بحيث اعتبر المنتمون اليه ان هذه السوق ومن بعدها الاتحاد الاوروبي هي مجرد أداة للهيمنة الاميركية أو الالمانية، ووسيلة للاستغلال الرأسمالي. التيار الثاني، برز بعد سنوات من تأسيس السوق لا لكي ينقض رأي التيار الاول فيها ولا لكي ينتقص من هذا الرأي، ولكن كي يصل الى استنتاجات عملية مخالفة للاستنتاجات التي توصل اليها الاولون. ففي حين اعتبر التيار الاول انه من الواجب محاربة المشروع الاوروبي وإفشاله، أو مقاطعته على اقل تعديل، ارتأى التيار الثاني ان هذا الموقف لم يعد مجدياً بعد ان تكرست السوق وحققت نجاحات ملموسة على صعيد الامن الاوروبي العسكري والاقتصادي. استطراداً دعا هذا التيار الى تغيير السوق / الاتحاد بصورة جذرية لنقلها من اداة للاستغلال الرأسمالي الى وسيلة في يد الطبقة العاملة وحلفائها من أجل إقامة مجتمع المساواة.
خلافاً للتيار الثاني الذي ظهر وكأنه يطرح مطالب تعجيزية على القيمين على المشروع الاوروبي، فان التيار الثالث بدا أقل تشكيكاً بالمشروع، وأكثر اقتناعاً بإمكان إصلاح مؤسساته. ولكن وراء هذا الموقف المضمر، نجد نهجين متصارعين: أولهما عكس مواقف صريحة وإيجابية تجاه المشروع بحيث وصل المنتمون الى هذا النهج في حماسهم للمشروع الاوروبي الى درجة ان بعضهم بدا وكأنه يضع هذا المشروع في مقدم أولوياته بحيث لم يعد يختلف كثيراً عن «الفيدراليين الاوروبيين» من الذين تأثروا بجان مونيه الأب التاريخي للمشروع الاوروبي.
النهج الثاني، تمثل بأولئك الذين لم يؤيدوا السوق، بل كانوا ضدها الى درجة انهم كانوا حريصين كل الحرص على التموقع في مفاصلها ومراكزها الحساسة بغرض تعطيلها من الداخل، وعلى حرفها عن الهدف الذي اختاره لها مؤسسو المشروع الاوروبي. ولعل توني بلير هو أبرز ممثلي هذه المدرسة في حزب العمال البريطاني وفي الاشتراكية الدولية. وعبّر بلير و»البليريون» عن معارضتهم المضمرة للاتحاد من خلال موقفين: الاول، هو الحماس الذين أبداه بلير من أجل توسيع السوق/الاتحاد. ولقد بدا هذا الموقف وكأنه من قبيل التعاطف مع المشروع الاوروبي: ألا تؤدي اضافة دولة أو أكثر الى الاتحاد الى تعزيز قوة الاتحاد ونفوذه الدولي كما أمل مانفيستو حزب الاشتراكيين الاوروبيين؟ نظرياً قد يكون هذا الامر صحيحاً ولكن ليس دوماً. ففي حالات كثيرة، يكون توسيع التكتل الاقليمي على حساب تعميقه. وهذا ما حدث تماماً بعد انضمام دول اوروبا الشرقية الى الاتحاد اذ بات أقل انسجاماً وتماسكاً مما كان قبل توسعه شرقاً. ولعل مما يسلط المزيد من الانظار على ان بلير كان يسعى الى النيل من تماسك الاتحاد وليس تعزيز قواه هو انه من المؤيدين بقوة لانضمام تركيا الى الاتحاد ليس حباً بتركيا ولا بالاتحاد ولكن من أجل إضعاف الاتحاد الاوروبي.
الموقف الثاني الذي يبين الموقف الحقيقي لبلير و»البليريين» تجاه الاتحاد هو موقفهم مما يترجم أحياناً بـ «التبعية» (subsidiarity). كان المقصود من ادخال هذا النهج هو التخفيف من الاعباء التي تتحملها الادارات الاتحادية الاوروبية وإحالة الكثير من المشاريع التي ترهق الاتحاد الى المؤسسات والاجهزة الادارية القومية لكي تقوم بهذا العبء. ظاهر المشروع سليم، أما الحقيقة فقد كان الغرض من المشروع هو الحد من سلطة الادارات الاتحادية، أي «إعادة الجني الاتحادي الى القمقم».
لقد اصيبت «البليرية» بما تمثله على صعيد موقف اليسار التقليدي الاوروبي تجاه المشروع الاوروبي. ولكن «البليرية» لا تلخص التحفظ اليساري الاوروبي التقليدي تجاه هذا المشروع. فاذا لم تجر معالجة هذه التحفظات، ستنتقل الى اليسار الاوروبي في عهده الجديد. اما النظر في هذه التحفظات وادماجها في مشاريع الاصلاح الاوروبي فسيزيح من درب الاتحاد الاوروبي عقبة مهمة.

الحياة اللندنية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً