تاريخ سينما غزة في علبة الحلوى

2015/12/23
Updated 2015/12/23 at 10:03 صباحًا

dba145d1-0c72-4f2d-ba16-8f6d10aaa56b

بعد محاولات عديدة، تمكّنت ميريام من الدخول لقطاع غزة عبر حاجز بيت حانون/ إيرز، المعبر الثاني إلى غزّة بعد معبر رفح. ميريام صديقة ألمانية متحمّسة جداً لتتعرف على مدينة غزة، تشاركنا حوارات التعارف التقليدية حول الدين والسياسة والصراع العربي الإسرائيلي والسينما، لتختار في النهاية موضوع “السينما في قطاع غزة” كموضوع رئيسي تودّ التعرف عليه خلال رحلتها هذه.
تواصلنا مع بعض الأصدقاء، المهتمّين بسينما غزة، وقررنا في اليوم التالي زيارة مشغّل سينما النصر السيد عدنان أبو بيض، بحثنا عن وسيلة للتواصل معه، فلم نجد سوى زيارة دكّانه الصغير الموجود في السوق الشعبي على أطراف حي الشجّاعية، شرق مدينة غزة. ما إن وصلنا إلى مدخل دكان صغير لبيع البصل، تأكدنا جميعاً من أن العنوان صحيحٌ تماماً، فقد علّق عشرات الملصقات لأفلام كان يعرضها في السينما قبل أن تحرق. بكل ثقة سألنا: “أي منكم عدنان، أيها السادة؟”. رد أحدهم: “عدنان توفى منذ حوالي شهرين، وجميعنا أولاده! أكيد جايين تعملوا معاه مقابلة عن السينما! للأسف لن تحظوا بفرصة لذلك”.
“عظّم الله أجركم يا جماعة، عدنان مات والسينما حُرقت من زمان”.
شعرت ميريام التي لا تعرف العربية، أن هناك حدثاً مؤسفاً حصل. وفيما كان صديقنا محمد يترجم لها الحديث، قاطعنا أحدهم ليدلّنا على مشغّل السينما الآخر، وهو السيد سمير الإفرنجي، حيث كان يعمل مع والدهم مديراً للسينما، ثم أعاد بعد ذلك تشغيل السينما لحسابه.
وصلنا إلى بيت عائلة الإفرنجي الذي لا يبعد عن “سينما النصر” سوى أمتار قليلة. فتحت فتاة صغيرة الباب، وبعد أن سألناها إن كان هذا منزل السيد سمير الإفرنجي؟ نادت على والدها: “في ناس جايين لسيدو علشان السينما”.
يبدو العنوان صحيحاً هذه المرة، وصلنا إلى شيء من ذاكرة سينما غزة المحروقة.
استقبلنا السيد سمير الإفرنجي في منزله، وكان متحمّساً للحديث عن السينما التي تمثل جزءاً من تاريخ غزة الثقافي. أخرج صوراً للسينما من علبة حلوى معدنية قديمة أتت بها حفيدته، وبدأ بعرض الصور علينا: “في الخمسينيات افتتحت أول دار سينما في غزة، كانت سينما السامر، مازال مبناها قائماً إلى اليوم، لكنّه تحوّل إلى كراج حكومي لفحص السيارات! ومازال يحمل اسمها أشهر تقاطع طرق وسط مدينة غزة. أما دار السينما الثانية، فهي سينما النصر في شارع عمر المختار بالقرب من السينما الأولى ومازال مبناها محروقاً وقائماً. أما دار السينما الثالثة تقع في شارع الجلاء، أحد أهم شوارع مدينة غزة، بيع مبناها وهُدِم. أما السينما الرابعة، فهي سينما عامر، لا أعرف ماذا حدث لها. كانت الشوارع تدلنا على السينما، وكانت السينما تدلنا على الشوارع”.
في العام 1987 مع اندلاع الانتفاضة الأولى، أغلقت دور السينما أبوابها نتيجة الوضع الأمني غير المستقر ومنع التجوال الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي بشكل يومي على غالبية المحافظات الفلسطينية. مع عودة ياسر عرفات في العام 1993، رمّم الإفرنجي “سينما النصر” وأعاد افتتاحها، لكنّها لم تعمل سوى شهرين، قبل أن تُحرق من قبل أفراد من حركة حماس، إثر خلافٍ نشب بينهم وبين أحد قيادات السلطة الفلسطينية.
السينما جزء من تراث غزة، وسينما النصر تحديداً جزء من تراث الإفرنجي، خلال الشهرين عُرضت في السينما أفلام تركية وعربية وهندية، وكان الناس يتهافتون إليها. يقول الإفرنجي: “كانوا متعطشين للسينما، فمن يشاهد السينما مرة يظل متعطشاً لها إلى الأبد. كانت السينما شقا عمري”.
يُسهب الإفرنجي في الحديث عن السينما ووصفها، “كانت سينما النصر جميلة جداً من الداخل ومن الخارج، حتى من لا يريد الدخول إلى السينما كان يقف على بابها، ينظر إلى واجهتها المضيئة في الليل أنوارها تجري كالنهر، ولوحة الإعلانات تروّج للأفلام المقبلة، وسماعات كبيرة تذيع أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم. يمكن أن تقف على باب السينما ساعة زمان، وتستمتع”. يضيف: “أما من الداخل، فكانت السينما مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، قاعة في اليمين للعائلات وقاعة في الشمال خاصة بالشباب فقط وقاعة في الوسط خاصة بالصبايا فقط. كان دائماً حضور الصبايا أكبر من حضور الشباب، وكانت السينما تعمل طوال أيام الأسبوع ونخصّص يومي الاثنين والخميس للعائلات فقط، والتي من جميع مدن قطاع غزة إلى السينما”.
يتذكر الرجل أكثر المواقف العالقة في ذاكرته بعد ما يقارب العشرين عاماً على إحراق السينما. “يمر شباب صغار السن أمام باب السينما ويسألونني: شو السينما؟ لم يكن لديّ جواباً، كل ما كان عليّ فعله هو إدخاله ليرى السينما مرة واحدة، فيتحوّل زبوناً. لم يمر عليّ شاب لم ينبهر بالسينما! كانت شاشة السينما كائناً حياً وضخماً، طولها 12 مترا، وعرضها 16 مترا، يعني بحجم ثلاثة طوابق من بيتي. لذلك لا تجوز مقارنتها بشاشة صغيرة تشاهدها منفرداً وحدك. السينما يعني أن تجلس مع مجموعة كبيرة من الناس، لا تعرفهم، ولا يعرفونك، وأن تعيشوا معاً المشاهد نفسها والمشاعر نفسها طول فترة عرض الفيلم”.
أما عن كيفية الحصول على الأفلام فيقول: كان الأصدقاء في عمان والقدس يتّصلون بي عند وصول إصدارات جديدة من الأفلام. عادةً كانت السينما في مدينة القدس تعرض الأفلام قبل السينمات في قطاع غزة، نتيجة قربها من عمّان. في إحدى المرات اتّصل بي صاحب دار سينما في القدس وقال لي إنّ هناك فيلماً صدر حديثاً لدريد لحام اسمه “التقرير”، فتشاركنا في شرائه واتّفقنا على أن يعرض أحدنا الفيلم ويروّج للآخر. عُرض الفيلم في القدس، وطبعنا إعلان مكتوب بالبنط العريض: اليوم في القدس وقريباً في غزة. في الأسبوع الأول حقّق الفيلم نجاحاً كبيراً، وفي الأسبوع الثاني حقّق نجاحاً أكبر، وفي الأسبوع الثالث حقّق نجاحاً مضاعفاً. كان من أكثر الأفلام التي حققت نجاحاً في فلسطين. كانت السينما والبحر أحد أهم معالم سياحة غزة الداخلية، فكما يذهب الناس إلى البحر صيفاً، يذهبون إلى السينما شتاءً”.
0
السفير

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً