لا تنتظروا اعتدالاً من المظلومين…بقلم:فهمي هويدي

2016/02/23
Updated 2016/02/23 at 11:09 صباحًا

index

لا نستطيع أن نراهن على الاستقرار في مصر ما لم نضع حدا للظلم، وبغير ذلك، لن تكون للإرهاب نهاية.

هذه قصة صغيرة تثير القصة الكبيرة والخطرة المسكوت عليها، فقد نشرت الناشطة الشابة المصرية منى سيف رسالة على صفحتها على «فيسبوك» وجهتها إلى الأجانب بعد اكتشاف جثة الباحث الإيطالي ريجيني، حذرتهم فيها من القدوم إلى مصر لأي سبب. فذكرت أن مناخها بات موبوءا والموت والرعب ينتظران كل أجنبي، وان السلطات المصرية عاجزة عن حماية الأجانب، بعدما أصبح الأجنبي معرضا للاتهام بأنه جاسوس فضلاً عن أنه بات بوسع كل شرطي أن يحتجز أو يعذب أي عابر سبيل في الطريق لأي سبب… إلخ.
بعدما ظهرت الرسالة على صفحتها على موقع «فيسبوك» انتقدها كثيرون، وكان أبرزهم الكاتب القدير والمناضل اليساري المخضرم صلاح عيسى. إذ نشر تعليقا عن دعوتها استهله بالعبارة التالية: لا أعرف على وجه التحديد طبيعة المشاعر التي دفعت منى سيف إلى كتابة الرسالة؛ مضيفا أنها «لو وجهت ضد نظام الحكم الحالي أو ضد الشرطة والقوات المسلحة لا يمكن اعتبارها ــ مع كثير من التسامح ــ مجرد وجهة نظر سياسية خاطئة ومضرة، تتصادم مع وجهة نظر أغلبية المصريين الذين يساندون النظام، ولكن الرسالة في جوهرها تتوجه ضد الشعب المصري. إذ هي بدعوتها السياحة الأجنبية لعدم زيارة مصر تسعى إلى زيادة الصعوبات الاقتصادية والمعيشية التي يعانيها المصريون منذ سنوات، كما انها تتبنى وجهة نظر فوضوية يتوهم أصحابها أن الوسيلة الوحيدة لدفع الشعب المصري ليتخلى عن مساندة نظام الحكم الحالي هي تجويعه وتصعيب الحياة اليومية عليه، وختم صلاح تعقيبه قائلا إن منى سيف وأمثالها من الفوضويين الذين يتوهمون أنهم ثوريون، وأنهم يدافعون عن حقوق الإنسان وعن الديموقراطية، وأنهم يحاربون ما يسمونه سلطة الانقلاب في حين أنهم لا يحاربون إلا الشعب المصري.
(2)
اتفق مع عيسى في موقفه، وأعارضه في الحجج التي أوردها. بما يعني أن الإدانة في محلها إلا أن المنطوق معيب والحيثيات مشوبة بالتغليط، ذلك أني معه في أن دعوة الأجانب لعدم القدوم إلى مص، أيا كان الموقف من نظامها، خطأ جسيم. مع ذلك فقد استغربت قوله أإنه لا يعرف طبيعة المشاعر التي دفعتها إلى كتابة ذلك الكلام. إذ توقعت أن يكون هو من أكثر الناس معرفة بظروفها وطبيعة مشاعرها. فهي ابنة أسرة عانت طويلا من الظلم والاضطهاد. بدءا من الأب والشقيقة وانتهاء بشقيقها علاء الذي يعد من أشهر المساجين المصريين الذين دفعوا ثمنا باهظا لاعتراضهم على المحاكمات العسكرية ولمواقفهم السياسية، وهو ينفذ الآن حكما بسجنه خمس سنوات. إذ حين تمر الفتاة بهذه التجربة (في محيطها المباشر، ناهيك عن غير المباشر) فلا يستغرب أن تمتلئ بالنقمة والسخط، وتلك خلفية تساعدنا على تفهم موقفها الذي دفعها إلى التعبير عن نفسها بذلك الاسلوب.
عندي ثلاث ملاحظات على مضمون تعليق الكاتب القدير:
] إن ما صدر عن منى سيف بولغ في حجمه بأكثر من اللازم. ذلك أني لم أسمع به إلا بعد التعليق الذي صدر عن صلاح عيسى، لذلك، فادعاؤه بأن ما ذكرته على صفحتها الخاصة يمكن أن يؤدي إلى تطفيش المستثمرين والسياح وتجويع المصريين وتهديد مستقبل الشعب المصري، كلام يعطيها وزنا أكبر مما ينبغي ويحمل كلامها بأكثر مما يحتمل. ذلك أنه ليس أكثر من «فشة خلق» لا تستحق أكثر من العتاب، لا التهويل الذي يمكن ان يؤدي إلى تجريمها ومحاكمتها.
] إن صلاح في مرافعته وسعها «حبتين» حين ذكر أن كلامها كان يمكن التسامح معه لو أنه كان ضد نظام الحكم الحالي أو أنه كان ضد الشرطة والقوات المسلحة، وذلك إفراط شديد في التفاؤل، لان الكاتب يعلم أن ثمة شبابا كثيرين يقبعون بلا محاكمة في السجون منذ سنة أو سنتين لأنهم اتهموا بما هو دون ذلك بكثير، أحدهم صبي معتقل منذ 700 يوم لمجرد أنه ارتدى يوما ما قميصا «تي شيرت» كتبت عليه عبارة «وطن بلا تعذيب».
] إني تمنيت ألا يضم الأستاذ صلاح المدافعين عن حقوق الإنسان والديموقراطية الذين يمثلون بعض آمالنا في انصلاح الأحوال، ضمن الفوضويين، خصوصا أنه كان يوما ما من ضحايا غياب الديموقراطية واستمرار الانتهاكات التي عانت منها أسرة منى سيف.
(3)
القضية أكبر بكثير من كونها رأيا ناقما وردا عليه. ذلك ان حالة منى تنبهنا إلى خطورة ما يحدثه الظلم والاضطهاد في عائلات ومحيط المظلومين، فإنزال الظلم بأناس والتنكيل بهم لا يروعهم أو يصيبهم وحدهم، ولكنه يشيع درجات من السخط والغضب في أسرهم، ويجعل أبناءهم وأشقاءهم بمثابة كيانات مملوءة بالنقمة، وهو ما يحولهم إلى مشروع ألغام وقنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أي وقت. وإذا انتبهنا إلى أن المساجين السياسيين يقدر عددهم بأربعين ألفا، بحسب التقديرات الحقوقية، فذلك يصور لنا النتائج السلبية الفادحة التي تترتب على استمرار احتجازهم وتلفيق القضايا لهم. إذ إن ذلك يحول ذويهم إلى جيش من الساخطين على كل شيء في البلد، وهؤلاء يصبحون جاهزين لممارسة العنف بمختلف درجاته، بما في ذلك العمليات الانتحارية.
موقف منى سيف يعد نموذجا مخففا للغاية لأصداء الظلم في محيط المظلومين، وهو الجانب المسكوت عليه برغم أنه يختزن مشاعر النقمة والعنف ويجهز لعوامل الانفجار. لذلك فلا بد من أن يدهش المرء إزاء تعدد التجارب المعاصرة التي كان فيها الظلم أحد أهم مصادر العنف في المجتمعات العربية، بحيث ظل بطش السلطة ملهما ومعلما لشيوع العنف في تلك المجتمعات. مع ذلك، فإن أحدا لم يتعلم أو يعتبر، لا من تجربة جماعة التكفير التي ظهرت في مصر خلال سبعينيات القرن الماضي، ولا من نموذج تنظيم «داعش» الذي يروع كثيرين هذه الأيام بعدما ألقيت بذوره في السجون العراقية والسورية.
استوقفني في هذا السياق تقرير نشرته جريدة «الشروق»، تحدث عن التحاق مئات من شباب «الإخوان» الذين لجأوا إلى تركيا إلى تنظيم «داعش». ونسب التقرير معلومة إلى شخص باسم محمد، هرب، بعدما وُضِع اسمه في أحد محاضر الضبط والإحضار على ذمة قضايا للتظاهر من دون ترخيص، الأمر الذي اضطره للهرب «لأن ذلك أفضل من السجن».
إذا صحت معلومات جريدة «الشروق»، فلن يكون ذلك التقرير الأول من نوعه، لأن الصحف المصرية دأبت على الحفاوة بانفراط عقد الجماعة وإبراز خلافات قياداتها وتمرد شبابها، مع إشارات مستمرة إلى العلاقة المفترضة بين «الإخوان» وتنظيم «داعش» الذي أفتت قياداته في وقت سابق بتكفيرها.
هذا كله لا استبعده، خصوصا إن بعض الباحثين الجادين الذين تطرقوا إلى حاضر الجماعة ومستقبلها توقعوا وحذروا من تحول بعض شبابها إلى «داعش»، إذا تمكن منهم اليأس والإحباط وأمام انسداد الأفق الذي لا يتيح لهم التعلق بأي أمل في المستقبل.
(4)
هل هذا المصير ـ إذا تحقق ـ يخدم الاستقرار والمصلحة الوطنية؟ هل المطلوب ان نُصِيبَ الأبرياء باليأس، ونملأهم بالغضب والنقمة بحيث يصبح خيار العنف هو الخيار الوحيد المتاح أمامهم؟ وهل هذا النهج يسهم في مكافحة الإرهاب أم أنه يحث عليه ويوسع نطاقه؟ أكرر أني أتحدث عن الأبرياء الذين أشير إلى مظلوميتهم أكثر من مرة. وليس عندي أي دفاع أو اعذار لمن ثبت تورطهم في العنف، إذا ما تم ذلك من خلال تحقيق نزيه وليس اعتمادا على تقارير كيدية ملفقة.
يثير الدهشة أن ذلك الموضوع مسكوت عليه، برغم انه بات ينذر بخطر لا ينبغي لمسؤول عاقل أن يتجاهله. وتتضاعف الدهشة حين نفاجأ بأن الجهاز الأمني المنسوب إليه ايقاع الظلم وممارسة التعذيب دفع أخيرا باتجاه إغلاق مركز «النديم» لعلاج ضحايا التعذيب. إذ بدلا من مراجعة سياسة التعذيب وتخفيف حدة الغضب والاحتقان، فإن السياسة الأمنية أرادت للتعذيب أن يستمر على وتيرته، وألا يتمكن ضحاياه من الشفاء والتعافي بما يمكنهم من التصالح مع المجتمع.
إن الاستغراق في مواجهة التطرف والإرهاب صرف الانتباه عن إذكاء الاعتدال والدفاع عنه، برغم أن الأول استثناء عارض والثاني يمثل الأصل الذي ينبغي أن نثبته ونعض عليه بالنواجذ. ولم يخل الأمر من جوانب أخرى عبثية، بحيث صارت بعض الجهات تحارب الإرهاب بالمؤتمرات والبيانات والمقالات، في حين تركت تفاعلات المجتمع وثمار السياسات المتبعة تخصم من رصيد الاعتدال حينا بعد حين، بحيث مضت تزود التطرف والإرهاب بالغاضبين والناقمين الذين وجدوا الخلاص في التفجير والعمليات الانتحارية.
إننا لا نستطيع أن نراهن على الاستقرار ولا الاعتدال ما لم نطوِ صفحة الظلم بما يحيي الأمل عند الناس ويعيد بسمة الرضى والاطمئنان إلى وجوه الضحايا وذويهم المقهورين.
السفير

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً