مكامن الخلل في الديمقراطيّة الأميركيّة … بقلم :أسعد أبو خليل

2016/07/30
Updated 2016/07/30 at 10:52 صباحًا

p10_20160730_pic1

تقييم الديمقراطيّة الأميركيّة أصعب من تقييم غيرها من الديمقراطيّات في العالم. هي ديمقراطيّة أنجح من غيرها في الترويج لذاتها، وفي تقديم نفسها على أنها النموذج الأمثل. والدعاية السياسيّة والعلاقات العامّة هي من أهم المنتوجات الأميركيّة — بعد الحروب والغزوات (يبلغ عدد التدخّلات العسكريّة الأميركيّة الحاليّة حول العالم نحو ١٣٠، بين حروب معلنة وحروب سريّة وتدخلات عسكريّة متنوّعة، ويبلغ عدد الغزوات لدول أجنبيّة أكثر من ٧٠ منذ إنشاء الجمهوريّة، مع أن عدد الحروب المُعلنة التي شنّها الكونغرس رسميّاً لم يتعدّ خمسة حروب فقط.

لا يحقّ إلا للكونغرس شنّ الحروب وفق الدستور الأميركي، لكن نظام الرئاسة الامبراطوريّة الذي توطّد في السياسة الخارجيّة والدفاع يسمح للرئيس بأن يغزو كما يشاء، بالرغم من سنّ قانون في عام ١٩٧٣ يحدّ من قدرة الرئيس على التدخّل العسكري الخارجي. لكن القانون الأخير أثبت عقمه، إذ إنه ليس هناك أعضاء في الكونغرس يجرؤون على رفض طلب الرئيس لتمويل الحروب والغزوات ـــ قانون «سلطات الحرب» يقول إنه يمكن للرئيس أن ينشر قوّات أميركيّة في دول أجنبيّة لمدّة لا تزيد على ٦٠ يوماً قابلة للتجديد). والترويج الأميركي للذات فولكلور سياسي عريق، ويدخل ضمن عمل السفارات الأميركيّة حول العالم، ومركز الاعلام العربي في دبي، التي تديره الحكومة الأميركيّة لنشر دعايتها وأكاذيبها في الإعلام العربي المطيع. وألكسيس دو توكفيل، الذي أثنى كثيراً على «الديمقراطيّة في أميركا» (في كتابه الشهير بالعنوان نفسه) تذمّر من تلك السمة في الشعب الأميركي: إنهم ينتظرون من كل زائر أن يثني على ديمقراطيّتهم — حتى في سنوات الاستعباد والحروب ضد السكّان الأصليّين — وإذا تمنّع الزائر، أمطروه هم بالثناء على تلك الديمقراطيّة.
يمكن رصد الجذور الأولى لتشكّل الديمقراطيّة الأميركيّة إلى عهد ما يُسمّى «الآباء المؤسّسين» (لم يكن للأمهات من دور مسموح). هؤلاء الآباء (وكانوا من الأثرياء والأكثر تعلّماً، و٢٥ من الـ٥٥ من المندوبين إلى المؤتمر الدستوري التأسيسي كانوا من ملّاك العبيد) كانوا متأثّرين بأسوأ جوانب الديمقراطيّة الإغريقيّة. كانوا حتماً من رأي الفلاسفة مثل أرسطو وأفلاطون في ذمّ فكرة الديمقراطيّة ونظامها. «حكم الشعب» كان عند هؤلاء هو حكم الرعام المنبوذ. لم يختر الآباء المؤسّسون الحكم الديمقراطي بل الحكم الجمهوري «المُفَلتَر»: تحدّث جيمس ماديسون في الأوراق الفدراليّة (رقم ١٠) عن نظام الانتقاء الدقيق: أي إن نخبة من الشعب ــــ وليس الشعب ــــ هي التي تنتقي النخبة الحاكمة. لكن لغة توماس جيفرسون الشاعريّة في «إعلان الاستقلال» طغت على الأحكام التقييميّة عن الديمقراطيّة: طمَسَ الإعلان استعباد السود وقمع الفقراء والمجازر ضد السكّان الأصليّين. تكلّم الإعلان عن «الحياة والحريّة والسعي نحو السعادة». كانت هذه مقتبسة من جون لوك، والصياغة الأصليّة تتحدّث عن الحياة والحريّة والملكيّة الخاصّة. لكن التملّك كان مصدر سعادة عند الآباء المؤسّسين، وكان جورج واشنطن عند وفاته أكبر مالك في كل البلاد الأميركيّة (وترك الأملاك والعبيد لزوجته، وأوصى بتحرير العبيد فقط بعد وفاة زوجته، التي سارعت إلى تحريرهم مذعورة).
كانت تركيبة النظام السياسي تركيبة نخبويّة حرفيّاً: بمعنى أن الآباء المؤسّسين لم يؤمنوا بالمساواة بين البشر (كلمة «مساواة» لم ترد ولا مرّة في الدستور الأميركي) وآمنوا بأن نجاح الديمقراطيّة يكمن في مفهوم التمثيل الانتخابي الاستقلالي (ميّزت حنة بتكن في كتابها «مفهوم التمثيل» بين نوعيْن مختلفين من نظريّات التمثيل الانتخابي)، أي إن المُنتَخَب لا يلتزم بالضرورة بتطلّعات الناخب وطموحاته ومطالبه. وأراد الآباء المؤسّسون تأسيس نظام يكون فيه التمثيل محصوراً بالنخبة الطبقيّة المتعلّمة. والصراع الطبقي لم يكن غائباً في سنوات تأسيس الجمهوريّة، وهو كان في صلب النزاع بين «الفدراليّين» و»معادي الفدراليّة»: مثّلَ الفريق الأوّل طبقة تجّار «نيو انغلاند» وملاّك المزارع في الجنوب (وهم ملاّك العبيد) والملكيّون، فيما مثّل الفريق الثاني طبقة الحانوتيّين والعمّال والصنّاع وصغار المزارعين. وكان الفريق الأوّل يريد حكومة فدراليّة قويّة تأمر بما ترتئيه بعيداً عن تطلّعات «الرعاع» ـــ بلغة المؤسّسين ـــ فيما ناضل الفريق الثاني من أجل تحقيق مكاسب لحقوق الولايات وللحريّات الفرديّة. وهذا الصراع وسمَ التاريخ السياسي للجمهوريّة الأميركيّة، وهو لم يُحسم بعد، وإن اتخذ أشكالاً أخرى، لأن فريق «حقوق الولايات» تسلّق عليه رجال الأعمال الذين يريدون التحرّر من الضوابط القليلة على تراكم رأس المال، وفريق العنصريّين الذين تصارعوا مع الحكومة المركزيّة قبل الحرب الأهليّة وبعدها من أجل الإصرار على حق استملاك العبيد، أو حق الفصل العنصري في ما بعد.
عصر «محاربة الإرهاب»
قلّص من الحريّات وزاد من سطوة الدولة
وطبيعة الحكم منذ إنشائه كان محافظاً، متوائماً مع مزاج المؤسّسين ومع مزاج الشعب الأميركي بصورة عامّة: المحافظة بمعنى ممانعة التغيير، خصوصاً إذا كان جذريّاً (تغيّر الدستور الفرنسي بعد الثورة ١٦ مرّة فيما لا يزال فقهاء القانون الأميركي يمحّصون في لغة الدستور الأميركي نفسه، محاولين سبر غور «مقاصد» المؤسّسين). وما يُسمّى هنا «الحريّة» هو مفهوم اقتصادي لا علاقة له بالسياسة. فكلمة حريّة لم تعنِ سياسيّاً ودستوريّاً غير «الحريّة السلبيّة» بمفهوم آيزايا برلين: أي نفور الفرد من تدخّل الدولة في الحريّات الاقتصاديّة وفي حق تملّك السلاح. أما الحريّة الإيجابيّة التي تكفل حق الشعب، فيما يتيح له تكافؤ الفرص من خلال تعديل ميزان تفاوت الفرص الذي يجد المرء نفسه فيها عند الولادة، فلم تكن تعني كثيراً في التاريخ الأميركي. لكن الانهيار الاقتصادي الهائل بعد ١٩٢٩ أدخل تعديلات على وظيفة الدولة في السوق، وعظّم من دورها من خلال استحداث برامج اجتماعيّة. لكن ثورة رونالد ريغان لم تتوقّف عن تخفيف دور الدولة في السوق وتفكيك برامجها الاجتماعيّة، وهذه ثورة ساهم فيها الجمهوريّون والديمقراطيّون على حدّ سواء.
وإمعاناً في تنصيب فئة نخبويّة حاكمة، فصل المؤسّسون بين مجلس الشيوخ (الذي أرادوه نادياً لأصحاب الثروات والجاه من أمثالهم) ومجلس النوّاب الذي رضخوا في إنشائه لتطلّعات الفئات الاجتماعيّة الدنيا (طبعاً، من البيض أصحاب الأملاك، لأن العبيد والسكّان الأصليّين والنساء وفقراء البيض المعدومين لم يكونوا في الحسبان في جمهوريّة تشكّلت باسم الشعب الذي اختزله الملاّك من البيض، كذلك فإن إعلان الاستقلال الشهير لم يشر إلى السكّان الأصليّين إلاّ كـ»وحوش بلا رحمة»). وكان مجلس الشيوخ (حتى ١٩١٣) ينتخبه أو يُعيّنه المجلس الاشتراعي أو المحافظ في الولايات لسنوات ست طويلة، لتحاشي «التماشي غير الكفء مع أيّ اندفاعة عاطفيّة مفاجئة أو لدافع عابر عند الناس»، كما كتب الكسندر هاميلتون بالحرف. وتحديد مدّة الدورة الانتخابيّة بست سنوات لأعضاء مجلس الشيوخ يهدف إلى إبعاد عضو المجلس عن مزاج الشعب العادي.
لكن الخلل الأكبر في النظام الأميركي يتجلّى في طريقة انتخاب الرئيس. لا يُنتخب الرئيس من الشعب هنا، كما في معظم البلدان الديمقراطيّة. قرّر المؤسّسون أن انتخاب الرئيس أمرٌ جلل لا يمكن أن يُترك في أيدي الشعب. ولهذا فإن هيئة منتخبة، أو مُعيّنة كما في الماضي اسمها «الكليّة الاقتراعيّة»، تقوم هي بالنيابة عن الشعب بانتخاب الرئيس (والنظام السياسي اللبناني أراده الفرنسيّون مجلساً نخبوياً يقوم بالنيابة عن الشعب بانتخاب الرئيس وذلك لمراعاة المعادلة الطائفيّة التي كانت في مدماك تكوين الكيان، ولأن انتخاب الرئيس من قبل مجلس يسهّل عمليّات رشوة النوّاب أو إصدار الأوامر لهم من جهة خارجيّة). أي إن الانتخابات تجري في الولايات وليس على مستوى البلاد برمّتها، والاقتراع يكون لمصلحة منتدبين (ومنتدبات في ما بعد) يقومون في ما بعد بالاقتراع للرئيس. لكن النظام أصبح أكثر ديمقراطيّة في القرن العشرين (باستثناء السود) لكنه لا يزال يدار بطريقة غير مباشرة نخبويّاً وانتقائيّاً (حتى في الانتخابات الرئاسيّة داخل الأحزاب، خصوصاً الحزب الديمقراطي، يُعمل بنظام «المندوبين الكبار» وذلك لتعطيل مشيئة الناخبين العاديّين والعاديّات).
لا يفوز الرئيس الأميركي بالمنصب عن طريق الاقتراع الشعبي، بل عن طريق الحصول على «الأصوات الاقتراعيّة» (وهي تُحتسب في كل ولاية عبر احتساب عدد النواب زائد عدد عضويْ مجلس الشيوخ. يتعادل أعضاء مجلس الشيوخ بين الولايات — لكل ولاية عضوان — فيما تتمثّل الولايات في مجلس النوّاب بناءً على الوزن السكّاني لكل ولاية، على أن يبقى عدد أعضاء مجلس النوّاب ٤٣٥). ويمكن للفائز في الانتخابات الرئاسيّة (الفائز هو الذي يجمع ٢٧٠ صوتاً اقتراعياً) ألا يكون حاصلاً على الأكثريّة الشعبيّة (حدث ذلك أربع مرّات في التاريخ الأميركي). وهذا السعي نحو الحصول على الرقم السحري يحيل بعض الولايات إلى أماكن قاحلة (غير مُزارة) للمرشحين (والمرشحات) ويعزّز مكانة عدد قليل من الولايات. والانتخابات الرئاسيّة في كل ولاية تجري — كما كل انتخابات في أميركا — على الطريقة الرجعيّة، أي النظام الأكثري الذي يقصي أي محاولة لصعود تيّارات وأحزاب جديدة (والسبب نفسه هو الذي يمنع اعتناق النظام النسبي في لبنان). وما دام الفائز الأوّل يفوز بكل شيء (أي بكل الأصوات الاقتراعيّة في الولاية)، فليس هناك مِن حافز للاقتراع في معظم الولايات لأنها محكومة بأن تذهب لهذا الحزب أو ذاك (أي كاليفورنيا للحزب الديمقراطي وتكساس للحزب الجمهوري، وهكذا دواليك). ومعظم الولايات محسوم أمرها قبل إجراء الانتخابات بأشهر (فهي، باللغة الأميركيّة، إما حمراء، جمهوريّة، أو زرقاء، ديمقراطيّة، والمعارك لا تدور إلا في بضع ولايات، مثل فلوريدا وفرجينيا وبنسلفانيا وميشيغان وأوهايو). وهذا يمنح هذه الولايات القليلة نفوذاً هائلاً يجحف بحقوق ومطالب ولايات أخرى (هذا، مثلاً يتيح لولاية أيوا النافذة أن تدعم صناعة طاقة الـ»إيثانول» — لأن نصف منتج الذرة في الولاية يذهب لصناعة الـ»إيثانول»، لأن أيوا مهمّة في الانتخابات الحزبيّة التي تقرّر مرشّحي الحزبيْن).
لكن إصلاح نظام الانتخاب الرئاسي ليس بهذه السهولة، وليس فقط بسبب صعوبة تعديل الدستور المُقدّس. فلو استبدلنا نظام «الكليّة الاقتراعيّة» بنظام الانتخاب الشعبي المباشر، فإن هذا سيحصر الانتخابات والحملات بعدد قليل من الولايات ذات الأكثريّة السكانيّة. ولقد فكّر عالم السياسة الأميركي، لاري ساباتو، في عمليّة الإصلاح في كتابه «دستور أكثر كمالاً»، وفيه يقترح تعديلاً يقضي بزيادة عدد الأصوات الاقتراعيّة للولايات ذات الكثافة السكانيّة لمنع ظاهرة إمكانيّة فوز رئيس بأكثريّة الأصوات الاقتراعيّة من دون الفوز بأكثريّة الاقتراع الشعبي. كذلك فإن ولايَتَيْ «مين» و»نبراسكا» أصلحتا على طريقتهما من عقم العمليّة الانتخابيّة الرئاسيّة عبر تطبيق نظام النسبيّة على الانتخابات الرئاسيّة في الولاية، حيث لا يفوز أوّل حائز اكثريّة الأصوات بكل الأصوات الاقتراعيّة، بل يفوز بالنسبة على ما يتوازى مع حجم فوزه (أو فوزها).
أما علّة العلل، والعامل الذي يحافظ على الاحتكار المطلق للتمثيل السياسي للحزبيْن، فيكمنان في إصرار الحزبين، عبر عقود طويلة، على الحفاظ على أسوأ نظام انتخابي، أي النظام الأكثري في الدائرة الفرديّة. وهذا النظام المعمول به أميركيّاً يعزّز ويضمن احتكار الحزبيْن السياسي إلى أبد الآبدين. ولو أن النظام النسبي معمول به (على أساس الولاية) لكان احتكار الحزبيْن قد كُسِر منذ أمد بعيد — والنظام النسبي مثالي لبلد مثل لبنان، لكن على نطاق لبنان دائرة انتخابيّة واحدة، (دعت إليه الحركة الوطنيّة في برنامجها الشهير، والذي زيّفه وليد جنبلاط في قوله إن كمال جنبلاط كان يريد النسبيّة في المحافظة).
نظام الفصل بين السلطات و«المراقبة والموازنة»
فشل فشلاً ذريعاً
أما الآفة الكبرى في الحياة السياسيّة الأميركيّة فهي المال السياسي، وكان «تيب أونيل»، رئيس مجلس النوّاب الأسبق، يسميّه «حليب الأم بالنسبة إلى السياسة». بالمقارنة مع ديمقراطيّات العالم (ينسى الشعب الأميركي أن هناك نحو تسعين دولة ديمقراطيّة في العالم، لأن ساسة البلاد يضخّون بصورة شبه يوميّة أن أميركا هي الدولة الحرّة الوحيدة في العالم)، فإن دور المال في الحياة السياسيّة الأميركيّة لا يُقارن بأي ديمقراطيّة أخرى. أذكر أن السيناتور الأسبق، جيمس أبو رزق، أخبرنا مرّة أنه كان يقضي نحو ثلث وقته في مجلس الشيوخ في طلب المال من المتموّلين. والمشكلة في التمويل أن المحكمة الدستوريّة العليا هي التي قضت بأن المال يساوي الكلام المُباح، وعليه فإن التعديل الأوّل للدستور الذي يخوّل حريّة التعبير، ينطبق على المال، لكن المحكمة أضافت أن تحديد كميّة التبرّعات الماليّة ممكن. والمحكمة هي التي تقرّر كميّة المال الانتخابي، من قبل الأفراد ولجان العمل السياسي والجمعيّات والشركات. وهذه الكميّة تزيد عبر السنوات، وقرار المحكمة في ما بات يُسمّى قضيّة «المواطنون المتحدون» والذي أزال العوائق من أمام الإنفاق غير المحدود من قبل «لجان العمل السياسي العملاقة»، فتح الباب واسعاً للإنفاق غير المحدود في «العمل السياسي» — من قبل شركات ونقابات — على أن لا يكون مرتبطاً مباشرة بالمرشّح. هذا ما يجعل الإنفاق الانتخابي بالمليارات، فيما تنفق كندا في حلقة انتخابيّة شاملة واحدة (في كل البلاد) أقل من تكلفة انتخابات في قضاء واحد في ولاية أميركيّة. وبات معدّل الإنفاق للفوز بعضويّة مجلس الشيوخ يبلغ أكثر من عشرة ملايين دولار، وهذا يفسّر الطبيعة الطبقيّة النخبويّة لمجلس الشيوخ ومجلس النوّاب — منذ عام ٢٠١٤ أكثر من نصف الأعضاء يملكون ثروات تفوق مليون دولار. وهذه الطبيعة الطبقيّة والإنفاق المالي الهائل يجعلان من الكونغرس الأميركي ذا أعلى نسبة إعادة انتخاب — بنسبة تقارب تلك في كوريا الشماليّة. وسبب أن نحو أكثر من ٩١٪ من أعضاء الكونغرس يُعاد انتخابهم هو بسبب حظوة المال: وهؤلاء لا ينفقون من مالهم الشخصي (قلّة تفعل ذلك، مثل عمدة نيويورك السابق، مايكل بلومبرغ، الذي أنفق نحو ١٠٠ مليون دولار من ماله الشخصي لدعم حملاته الانتخابيّة) لكن الثراء يجرّ الثراء، والأثرياء يعرف بعضهم بعضاً في البلدات والمدن والأنحاء.
ولاحظ ألكسي دوتوكفيل في زيارته المذكورة أعلاه لأميركا أن الشعب الأميركي (في القرن التاسع عشر) كان ناشطاً في أعمال تطوّعية وفي ما نسمّيه اليوم «المجتمع المدني». والنشاط هذا كان في الكنائس والنوادي وأعمال خيريّة محليّة. هذا النشاط التطوّعي خفّ كثيراً في العقود الماضيّة (وهو محطّ دراسة من قبل روبرت بتنم في كتابه «لعب البولنغ فرادى»، والذي وثّق فيه تناقص الأعمال التطوّعية والاجتماعيّة عند الشعب الأميركي (وهو نسب ذلك لأسباب عديدة، بما فيها التلفزيون والمرأة، كأن على المرأة بعد العودة من العمل أن تقوم بما كانت تقوم به من أعباء نشاطيّة محليّة قبل أن تدخل إلى سوق العمل خارج المنزل ـــ لأن عمل المرأة في المنزل لا يزال غير محسوب). هذه الظاهرة تزداد في العصر التكنولوجي الحديث حيث يقلّ التعاطي الاجتماعي بين الناس، ويقلّ الحديث والتأثير السياسي في ما بينهم (أجهزة التبريد أحدثت تحوّلات في الحياة السياسيّة في الجنوب الأميركي، ودخل الذين كانوا يتحدّثون في السياسة على مصطبات منازلهم إلى داخل المنزل). لكن عدم المشاركة السياسيّة يعود إلى أسباب عديدة: إن طبيعة السياسة الرتبية وإعادة تجديد الحزبيْن لهيمنتهما التمثيليّة لا تحفّزان الشباب على المشاركة السياسيّة أو على الاقتراع (نسب الاقتراع في أميركا هي الأدنى بين الديمقراطيّات، ولا يصوّت من الشباب إلا نحو خُمسهم). لكن الحزب الجمهوري يساهم بطريقة مباشرة في مؤامرة التقليل من الاقتراع والمشاركة، لأن الفقراء يميلون إلى الحزب الديمقراطي، وهم الأقل اقتراعاً بين الطبقات الاجتماعيّة، كذلك فإن الشباب الأميركي في الجامعات يميل إلى الحزب الديمقراطي، مع أن النسب هي أقل بين الشباب البيض من الذكور. ولهذا لا يحبّذ الحزب الجمهوري إتاحة المجال للاقتراع من دون عوائق فريدة في هذه البلاد (مثلاً على المُقترع أن يتسجّل قبل أن يقترع، كذلك فإن الاقتراع — خلافاً لمعظم بلدان العالم — يجري في يوم عمل عادي، وهذا جزء من مؤامرة تقليص مشاركة الفقراء).
أما نظام الفصل بين السلطات و»المراقبة والموازنة» فقد فشل فشلاً ذريعاً، لأنه يعمل في سياق نظام انتخابي يرسّخ حكم الحزبيْن فقط: ليس هناك من حافز لدى أيّ منهما لتحقيق تنازلات وعقد مساومات، والبلاد منشطرة أكثر من أي وقت مضى، وتقسيم الدوائر الانتخابيّة يعود إلى الهيئة الاشتراعيّة المحليّة، وعليه فإن كلا الحزبيْن يعمد إلى ضمان فوزه في الدائرة. لكن لو أن النظام النسبي معمول به، فإن قيام أحزاب ثالثة ورابعة يمكنه أن يكسر حدّة الانشطار الذي لم يأخذه المؤسّسون في عين الاعتبار. لا بل إنهم فضّلوا نظاماً لا يُكثر من الأحزاب (كانوا يسمّونها «أجنحة») حتى لا ينجح الشعب في ترجمة أمزجته المباشرة. النظام النخبوي النائي كان مفضّلاً عند هؤلاء.
تستطيع الديمقراطيّة الأميركيّة أن تتعلّم الكثير من تجارب ديمقراطيّات أخرى، خصوصاً في الدول الاسكندنافيّة. لكن سمة الزهو الوطني والقومي تسود هذه البلاد، حيث يظن المواطن أن نظامه بلغ الكمال، وأن التاريخ انتهى عند عتبة باب البيت، وأن الحريّة لا يمكنها أن تزداد أكثر. وعصر «محاربة الإرهاب» قلّص من الحريّات وزاد من سطوة الدولة التي باتت تحكم العالم أجمع. لكن حملة شعبيّة (غير واردة) لتقديم تعديلات دستوريّة من أجل كسر احتكار الحزبيْن وإتاحة المجال أمام أحزاب إصلاحيّة جديدة يمكنها أن تُحدث تغييراً. لكن لا الحزبان في وارد التغيير، والشعب شرب الخوف من التغيير مع حليب الأم. ولهذا فإن هذا النظام مُقدم على فساد متعاظم، وهذا الفساد هو الذي ينتج ظاهرة ترامب على اليمين، وساندرز على اليسار. لكن لو وصل أحدهما إلى الحكم، فإن سقفه وحدوده ستظلّ هي هي، كما كانت عند رؤساء سابقين، أي إن الديمقراطيّة الأميركيّة تتجه إلى مزيد من الإغلاق والانغلاق، ومزيد من الفساد ومزيد من لوْم الغريب والمهاجر والملوّن.

الاخبار اللبنانية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً