مقتطف من “رهينة داعش”.. القصة الحقيقية لفرار المصور الدنماركي دانيال راي

2016/08/11
Updated 2016/08/11 at 9:35 صباحًا

index

فيما يلي مقتطف من كتاب بوك دامسغارد “رهينة داعش” التي تروي تفاصيل 13 شهراً قضاها المصور الدنماركي دانيال راي أتوسين في أسر المجموعة الإرهابية في شمال سورية. ويعرض هذا المشهد هروب السجين من منزل آمن للمجموعة المتشددة في بلدة عزاز في شمال سورية، حيث تعرض للتعذيب على مدى أسابيع طويلة.
*   *   *
شعر دانيال بأيدٍ على عنقه وكتفيه. كان بعض الناس يرفعونه، بينما يعبث آخرون بسلسلة حديدية. اعتقد للحظة وجيزة بأن يد الله هي التي ترفعه نحو الضوء، إلى أن رشق أحدهم ماءً بارداً على وجهه. تردد في الاستيقاظ، لكنه حرك رأسه بدفع الغريزة عندما هدد حذاء عسكري بالدوس عليه.
انفجر الحراس بالبهجة: ما يزال رهينتهم حياً يرزق. واحتفلوا بضربه بأنبوب بلاستيكي تلوى حول جسده المعذب، ثم تركوه مربوطاً بمشعاع التدفئة في الغرفة.
كانوا قد عذبوه وجوَّعوه واستنزفوا منه كل إنسانية. لم يعد هو نفسه. وكان قد قفز عالياً بأقصى ما يستطيع حتى كادت السلسلة أن تكسر عنقه، لكن رأسه ظلت سليمة على كتفيه، وكان الحراس يحتفلون لأنه ما يزال على قيد الحياة. هل تخلى عنها ذلك الطفل في المدخل؟
ربما أراد الحراس أن يقتلوه بأنفسهم؟ وربما أراد حقاً أن يدق الطفل الصغير فيه ناقوس الخطر؟ لم يكن يعرف.
بمجرد أن أصبح وحيداً مرة أخرى، حاول أن يصل إلى الحقيبة المليئة بعلب الكوكاكولا، عله يجد شيئاً يشربه. واستطاعت قدماه أن تمسّا الحقيبة فقط، لكنه لم يستطع تحريكها.
إلى جانب السرير، رأى زجاجة مياه نصف ممتلئة، تقف هناك مشرقة مثل معجزة. وباستخدام الحافة الخارجية لإصبع قدمه الكبير، تمكن من الوصول إليها. شرب الجرعات القليلة المتروكة في الزجاجة، ونظر حوله في أنحاء الغرفة، وأدرك فجأة عدم وجود زجاج في إطار النافذة.
بدلاً من ذلك، كانت المصاريع المعدنية تتدلى من النافذة إلى الخارج. كانت النافذة محطمة جزئياً في إحدى الزوايا، وقد ألصقت عليها قطعة من الورق المقوى لتحجب مشهد العالم الخارجي. كما لمح أيضاً مصباحاً ظليّاً قديماً في الزاوية الأقرب. كان يشبه المصباح في منزل جدته، بأهداب تتدلى حول الجزء السفلي من المخروط القماشي.
قبل الشروع في رحلته إلى سورية، كان قد شاهد فيلم “فجر الإنقاذ” من بطولة كريستيان بايل الذي لعب دور طيار أميركي أُخذ رهينة خلال حرب فيتنام. وفي الفيلم، استخدم بايل مسماراً ليعالج به أصفاده ويفتحها، مما سمح له بالهروب من معسكر التعذيب.
فكر دانيال في هذا المشهد بينما يتأمل المصباح الظلي القديم على الأرض. سحبه نحوه بقدميه. ربما يمكن أن تعمل الأشياء في الحياة الحقيقية مثلما تفعل في الأفلام.
أخذ وقته وهو يهز المصباح الظلي ويعبث بأسلاكه المعدنية، وفي نهاية المطاف، تمكن من فصل قطعة من المصباح بطول نحو سبعة سنتيمترات. أدخل نهاية القطعة المعدنية في فتحة في الأصفاد حتى يستطيع أن يثنيها قليلاً. اتخذ المعدن شكل مفتاح، والذي قد يتمكن من استخدامه بنفس طريقة مسمار كريستيان بايل.
أدخل دانيال قطعة المعدن في قفل الأصفاد وأدارها. عبث بها لعدة ساعات بزوايا مختلفة حتى سمع صوت تكة في نهاية المطاف: لقد انفتح القفل. جلس ساكناً للحظة. كان الشيء الوحيد الذي يعرفه على وجه اليقين هو أنه موجود في الطابق الأول، ويمكنه أن يقفز من النافذة، وإنما لم تكن لديه أي فكرة عن المسافة إلى أسفل، ولا عما يوجد خارج المنزل. لكن ذلك لم يكن يهم. كان يريد الخروج فحسب. من الأفضل أن يموت المرء وهو هارب من العيش تحت وطأة التعذيب.
اخترق ضوء النهار الثقوب في المصاريع المعدنية، راسماً على الأرض أقماعاً من الضوء. سمع دانيال النداء الأول للصلاة في اليوم بينما يزيل الورق المقوى ويقفز عبر زاوية إطار النافذة حيث كانت المصاريع مكسورة. دفع نفسه من خلالها حتى وجد نفسه في النهاية واقفاً على شرفة صغيرة.
كانت الشرفة منخفضة بما يكفي ليقفز منها. زحف على الدرابزين، ومد جسده ودلى ساقيه في الهواء قبل أن يهبط على قدميه العاريتين المتورمتين في كومة من الأغصان.
مسح الأفق بعينيه باحثاً عن مكان يستطيع أن يركض إليه حيث يجد غطاءً، لكنه استطاع أن يرى مجموعة من الأشجار الطويلة العارية التي بلا أوراق، ومبنى فارغاً إلى اليمين. وإلى جانب أشجار امتد طريق ترابي اختاره ليكون طريق الهروب، مع أنه كان يدرك جيداً أنه جسمه سيضيء عملياً مثل المنارة وسط المشهد المسطح ذي اللون البني الفاتح، في قميصه الأزرق وبنطاله الجينز الأسود الذي ينبث رائحة البول الجاف.
بعد أن ركض مسافة قصيرة، استطاع دانيال أن يميز شيئاً يشبه برج مياه قديم راشح. وبشكل غريزي، اتجه نحو دفق المياه التي تتسرب من البرج.
وقف هناك تحت الماء، وشرب وأصبح منقوعاً بالبلل. كان الوقت جوهرياً، لكنه لم يصمد طويلاً كسجين هارب من دون أي ماء.
تابع مسيره على الطريق الترابي فترة من الوقت، لكن المباني على كلا الجانبين كانت محاطة بالجدران العالية، مما جعل الاختفاء مستحيلاً من الناحية العملية. تفرع الطريق، وعندما اتجه إلى اليسار، رأى رجلاً يراقبه من إحدى النوفذ. ومر أيضاً بامرأتين حاولتا التواصل معه، لكنه هتف بلهجة أرادها أن تكون طبيعية قدر الإمكان: “ما في مشكلة” قبل أن يتعقب امتداد الجدار خلف الزاوية إلى اليمين. جرحت الحجارة قدميه. وبدت خبرته مع الحرية شيئاً سريالياً تماماً.
خلف الزاوية، وقع نظره على ثقب كبير في جدار، تكفي مساحته فقط لجسم من حجمه ليحشر نفسه من خلالها. زحف متكوراً عبر الثقب وخرج إلى حديقة تضم قدراً من الحشائش الطويلة أمام منزل. وقف ساكناً لبرهة وتنفس بعمق. على العشب أمامه رأى بنطالاً قديماً مليئاً بما يشبه أصابع ديناميت. اعتقله شعور هائل بالذعر، وأحسَّ بأنه وقع في مصيدة. ربما نبهت المرأتان شخصاً ما إلى الرجل الأشقر الذي رأتاه يركض في الحي حافي القدمين.
تسلق عائداً مرة أخرى من خلال الثقب في الجدار، وركض أبعد على الطريق الترابي في اتجاه مشهد أكثر انفتاحاً. وتركت قدماه الجريحتان أثراً دامياً وراءه. كان الحي على وشك أن يستيقظ. واستطاع أن يميز بعض البيوت المتناثرة في الأفق، لكنه كان يعلم أنه لن يكون قادراً على الركض كيلومترات عدة. بدلاً من ذلك، ركض إلى داخل حقل للذرة، وألقى بنفسه على ركبتيه وخلع قميصه الأزرق حتى يموه نفسه بين النباتات، وشرع في الزحف قُدُماً على مرفقيه.
أحسَّ بكتل التراب الجافة والحجارة وهي تكشط جذعه العاري. لكنه لم يستطع أن يواصل زحفه في خط مستقيم لأن نباتات الذرة كانت منخفضة للغاية في بعض الأماكن بحيث لا يمكن أن تخفيه.
فجأة سمع أصواتاً تأتي من مكان ما وراءه. توقف عن الزحف واستلقى مستوياً تماماً على الأرض برهة، قبل أن يتكور مثل الجنين وينتظر الأصوات أن تختفي.
بدا كما لو أن العديد من الرجال يتحدثون معاً بينما يتجولون في حقل الذرة. انحنى دانيال إلى الأمام قليلاً ليرى أين هم، واكتشف أن هناك رجلاً يقف بجانبه مباشرة. وعندما نظر الرجل إليه، مباشرة في العينين، قفز دانيال في جزء من الثانية وانطلق راكضاً في حقل الذرة.
أخذ الرجال وراءه يصرخون الآن بصوت عال بالعربية، وأصبحت ساقاه ثقيلتان، كما لو أنه يركض على وسائد. سمع إطلاق نار، وأزت الرصاصات قرب أذنيه. رمى دانيال نفسه على الأرض في مزيج من الإنهاك والخوف من التعرض الإصابة. انحنى عليه الرجال الذين لم يميزهم. “أنا دانيال، من الدنمارك” قال لاهثاً، وقال لهم إنهم سيحصلون على المال إذا ساعدوه في اجتياز الحدود إلى تركيا. قيَّد رجل قصير سمين يدي دانيال وراء ظهره وفقد في العملية السيطرة على سلاحه الذي انطلقت منه رصاصة وانغرست في الأرض. ابتسم دانيال تقريباً. وفكّر: إذا كانوا هواة على هذا النحو، فإنه ربما يستطيع إقناعهم بأخذه بسيارتهم في اتجاه تركيا.
وضعوه في المقعد الخلفي لسيارة كانت متوقفة على الطريق المجاور، وانطلقوا عائدين في الاتجاه الذي أتى منه تواً. توقفت السيارة في منزل بلون الرمال محاط بسور. قادوه إلى أسفل إلى القبو، وأعطوه زجاجة ماء مثلج وسيجارة.
نهل دانيال الماء البارد ودخن السيجارة بينما يريهم الكدمات على جذعه ورقبته. لم يكونوا يتحدثون أي إنجليزية، وإنما بدا أنهم يفهمون. هل فهموا أيضا أنه يريد العودة إلى دياره؟ ألقوا به مرة أخرى في السيارة، في الصندوق الخلفي هذه المرة، وساروا لفترة طويلة. توقفوا وقفات قصيرة على الطريق، وبدا أنهم يشترون مواد البقالة.
سحبوه مرة أخرى إلى قبو آخر، إلى نوع من قاعة حفلات، حيث يمكن أن تكون قد أقيمت حفلات الزفاف. اصطفت مجموعة من الأرائك العربية مفرطة الحجم على الجدران. وسُمح لدانيال بالتحرك طليق اليدين حتى يذهب إلى المرحاض ويغسل نفسه. وقدموا له كنزة صوفية من قياس كبير جداً ليرتديها.
مر بضعة من الرجال اللطيفين الأكبر سناً مع الشوكولاته والقهوة والبسكويت والمياه. وبدأ دانيال يعتقد بأنه قد يرى أمَّه مرة أخرى. وجاء بعض الأولاد الذين يرتدون قمصان فريق “أرسنال” ودرسوه عن كثب مع بقية الجمع، ومرة أخرى عرض لهم ندوبه والعلامات الكثيرة الكثيرة. حتى جعل صوت فرائصه ترتعد.
“مرحباً دانيال. لقد افتقدناك. أين كنت”؟
كان ذلك معذبه، أبو حورية، واقفاً في المدخل، والأصفاد على أهبة الاستعداد

بوك دامسغارد* – (نيوزويك)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

.

*نشر هذا المقتطف تحت عنوان: A Hostage’s Escape From Isis
*مقتطف من كتاب “رهينة الدولة الإسلامية”، الذي يروي تفاصيل هروب دانيال راي من منزل آمن لـ”داعش”.

FacebookTwitterطباعةZoom INZoom OUTحفظComment

ش

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً