إعادة إنتاج السلطويّة في فلسطين…بقلم:بلال الشوبكي

2016/08/15
Updated 2016/08/15 at 9:18 صباحًا

index

 

 

خطّت الأحزاب والفصائل الفلسطينية الشهر الماضي 24 بنداً، وزعمت أنّها تشكّل ميثاق الشرف الخاص بإجراء الانتخابات. توقيع هذه البنود دفع البعض ليجادل بأنّ الانتخابات ستكون، برغم صعوبتها، العنق الذي سنعبره خروجاً من الزجاجة. هذا النوع من المجادلة يستدعي نقاشاً لازماً للعديد من النقاط، منها ما هو سابق للميثاق وللإعلان عن إجراء الانتخابات المحلية، ومنها ما هو لاحقٌ لذلك.
البداية من البيئة الحاضنة للانتخابات. إنّ الالتزام بقيم النزاهة والشفافية وضمان الحقوق والحرّيات التي ينادي بها الميثاق، والنّاطقون باسم الفصائل، خاضعة للاختبار في كلّ ثانية، على الأقل بالنسبة لحركتي «فتح» و «حماس»، فالأولى نافذة في الضفة والثانية في القطاع. وبمراجعة سريعة لآخر تقارير الهيئة المستقلّة لحقوق الإنسان، يمكن الاستنتاج أنّ التوقيع على الميثاق تضليل للجمهور. يشير ذلك التقرير إلى رصد الهيئة ما يزيد عن ثمانين حالة انتهاك لحقوق الإنسان في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال حزيران 2016 شملت حالات وفاة غير طبيعية، اعتقالات، تعذيب، اعتداءات على التجمّعات السلمية، وعدم الإلتزام بالإجراءات القانونية. هذا بالإضافة الى احتلال فلسطين المرتبة الـ 132 على مقياس حرّية الصحافة العالمي، الذي تعدّه مؤسسة «صحافيون بلا حدود»، علماً بأنّ التقييم شمل 180 دولة.
هذه المؤشرات، وربما غيرها الكثير غير المرصود، تعني أنّ القبول بالاحتكام إلى الصندوق من دون الالتفات إليها تجميلٌ للسلطوية وشرعنة لها. إنّ القول بأنّ هذه الخطوة قد تخفّف من حالة الاحتقان القائمة، هو استنتاجٌ لا تدعمه حجّة. فحتّى تكون الانتخابات خطوة حقيقية في طريق التحوّل الديموقراطي، لا بدّ أن تترافق مع إصلاحاتٍ حقيقية على مستوى السياسات لا على مستوى الخطاب فقط، علماً أن الأخير يعاني أيضاً من تشوّهات.
حركتا «فتح» و «حماس» تدركان هذه الحقيقة، وهو ما يفسّر سلوكهما جزئياً في الآونة الأخيرة، وفيما يخصّ الانتخابات المحلية تحديداً. قرار «حماس» الواضح بشأن مشاركتها، وغير الواضح بشأن شكل هذه المشاركة، يكشف مخاوفها على مستويين، الأول متعلّق ببيئة الضفة الغربية المقيّدة لـ «حماس»، وهي بيئة تجعل من مشاركة عناصر الحركة في الانتخابات خطوة باهظة الثمن، وتكلفتها ستُلقى على كاهل العناصر بشكل فردي بحكم تفكيك التنظيم أمنياً. والثاني في غزّة، إذ تدرك الحركة أنّ ضنك العيش قد يجعل من النتائج مفتاحاً لقلب الطاولة عليها.
حركة «فتح» بدورها بدت مرتبكة، تحديداً بعد قرار «حماس» المشاركة في الانتخابات، وهي الآن في مأزق حقيقي يؤكّد أنّ البيئة الحالية ليست مثالية للحديث عن انتخابات. مأزقها متعدّد الأركان، الأوّل أنّها وعلى مدار سنوات عديدة ماضية جعلت من الخصومة مع «حماس» نقطة الإجماع المركزية، فيما لم تعط أي أهمية للتنشئة والتجنيد على أسس ذاتية بعيدة عن استعداء الآخرين. بعد أيّام قليلة من الإعلان عن الانتخابات، بدت نقطة الاجماع هذه غير كافية لتوحيد الحركة خلف قوائم محدّدة، وظهرت الخلافات الداخلية على شكل اشتباك في أكثر من منطقة.
الجانب الثاني من المأزق، أنّه وفي الجهة المقابلة لتخوّف «حماس» من استخدام النتائج لسحب البساط من تحتها، تتخوّف «فتح» بشأن قطاع غزّة من أن تُستخدم النتائج لتكريس حكم «حماس»، نتاجاً لسيطرة الأخيرة على غزة، والانقسام الفتحاوي – الفتحاوي في أكثر من منطقة. ما يعزّز هذا التخوف تلك التقديرات الصادرة عن الاحتلال والتي ترجّح تفوّق «حماس». وما زاد من إرباك «فتح» أنّ قرار «حماس» عدم الدخول بقوائم تحت اسمها يجعل من النتيجة بالنسبة لـ «فتح» مشكلة في مطلق الأحوال. فإن هي فازت في الانتخابات لا يمكن الادّعاء بأنّ فوزها ذو قيمة كبيرة على الصعيد السياسي بحكم غياب المنافسة، وإن هي لم تفز ستكون خسارتها مضاعفة في ظل غياب المنافس التقليدي.
هذا المأزق هو ما يدفع «فتح» حالياً لتطعيم قوائمها بشخصيات من خارجها، تارةً بتجنيد الكفاءات، وتارةً أخرى باسترضاء العشائر واستثمار نفوذها. بالنسبة للكفاءات المهنية، تبدو الاستعانة بها جزءاً من الدعاية الانتخابية أكثر من كونها خطوة نحو إشراكها في السياسات، فقد تم تهميشها لفترة طويلة، ولا يتم اللجوء إليهم إلا لتوسيع القاعدة الجماهيرية المساندة لقائمة ما، خصوصاً في ظل فقدان الثقة بالكثير من النخب السياسية.
أمّا بالنسبة للعشائر، فإنّ إدخالها بقوّة في المشهد الانتخابي تتحمّل وزره حركتا «فتح» و «حماس». فالتخوّف من المشاركة بقوائم حزبية خالصة يجب ألّا يدفع باتجاه فتح الباب للقوى العشائرية، بحيث تتسيّد المؤسسات بشكل بدائي ومن دون أيّ معيار مهنيّ، بل ومصحوباً بمغامرة سياسية خطيرة. إذ بإمكان الاحتلال أن يعزّز هذا التوجّه ليخاطب العشائر في مرحلة لاحقة، بدلاً من القوى السياسية. وبرغم أنّ إحياء العشائرية بدأ بعد تأسيس السلطة كخطوة لإضعاف الأطر السياسية، إلّا أنّ حضورها اليوم يبدو أكثر إثارة للريبة من ذي قبل. ففي بعض البلدات والمدن الفلسطينية، تبدو نتائج الانتخابات محسومة سلفاً بناءً على اتفاقات عشائرية معيارها الوزن الديمغرافي للعشيرة لا البعد المهني. هذا النهج يتناقض مع الدعوة للتحوّل الديموقراطي ويحمل مخاطرة سياسية بشأن التواصل مع الاحتلال مستقبلاً، ولا يتماشى مع ما ورد في ميثاق الشرف.
التناقض مع ميثاق الشرف لا يظهر فقط في إحياء العشائرية، بل في التمييز بين المواطنين على أساس دينيّ. فتخصيص «كوتا» للمسيحيين في بعض المدن والقرى، وإن جادل البعض باعتباره تمييزاً إيجابياً، إلا أنّه يحمل تهديداً بإمكانية إحياء نعرات فئوية على أساس ديني، خصوصاً أنّ المنطقة العربية يتم شحنها بخطاب الكراهية على أساس دينيّ. كما أنّ هذه الخطوة تتناقض مع التوجهات العلمانية المعلنة من قيادة السلطة.
تأسيساً على ذلك، تبدو المزاعم بأنّ هذه الانتخابات هي بداية النهاية للانقسام الفلسطيني مفتقرةً للمنطق، ومتجاوزةً للحقائق على الأرض. إذ إنّ الدعوة لإجرائها والقبول بها من الفصائل كافة من دون تقويم المشهد الفلسطيني الكلّي أو البدء في تقويمه على أقلّ تقدير، قد يدفع بالمجتمع نحو إشكاليات أعمق، تصبح البُنى الاجتماعية كلّها جزءاً منها، ويصبح الانقسام حاضراً في أضيق دوائرها، ومن ثم تتشكّل في المجتمع نخبٌ محلّية جديدة قد تُستحضر للانقضاض على الحركات الوطنية. هذا لا يعني المطالبة بوقف الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، إنّما يعني ضرورة احتكام جميع القوى والأفراد للقانون واحترام الحقوق والحرّيات، والانتباه إلى علاقة السياسي بالخدماتي في ظلّ الاحتلال وفي ظل التمويل الأجنبي، من ثمّ يمكن مناقشة موضوع الانتخابات.
] تنشر بالاتفاق مع «شبكة السياسات الفلسطينية».

 

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً