قراءة مقارنة في النماذج العليا لـ«يونغ» والتنوع الثقافي لدى«شتراوس»

2016/08/27
Updated 2016/08/27 at 9:00 صباحًا

 

25r0951-400x259

 

القدس العربي – هايل المذابي /حين كنت أقرأ عن فكرة «النماذج العليا» لعالم النفس النرويجي كارل يونغ، التي عرّفها تعريفًا شاملاً في مقال له بعنوان «في العلاقة بين التحليل النفسي والفن الشعريّ» نشره في كتاب «إسهامات في علم النفس التحليليّ»، وهي حسب تعريفه صور ابتدائية لاشعورية أو «رواسب نفسية لتجارب ابتدائية لا شعورية، لا تحصى» شارك فيها الأسلاف في عصور بدائية، وقد وُرِثت في أنسجة الدماغ، بطريقة ما؛ فهي – إذن- نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية؛ هذه النماذج العليا تقع في جذور كل شعر (أو كل فن آخر) ذي ميزة عاطفية خاصة، وجدت أنها تلتقي أو بالأصح كانت مبعث نظرية القرابة لدى عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود لفي شتراوس، والمقارنة تقول إن شتراوس عندما قارن علاقات القرابة والأساطير عند (البدائيين) لاحظ أنه ينتهي دائما إلى المشكل الأساسي نفسه، فاستخلص أن وراء التشابه بين الثقافات توجد وحدة نفسية للإنسانية، إذ هنالك عناصر أساسية مشتركة للإنسانية، والحضارات لا تقوم إلا بتركيب هذه العناصر المشتركة في تشكيلات مختلفة. ولذلك نلاحظ بين الثقافات البعيدة عن بعضها بعضا تشابهات وهي تشابهات لا تُعزى بالضرورة إلى التواصل بين الحضارات، خاصة إذا ما تبيّنا وجود حضارات يصعب تصور الاتصال في ما بينها نظرا لانزوائها وتباعدها عن بعضها بعضا مثلما هو شأن حضارة (الأنكا) في البيرو و(الداهومي) في أفريقيا.
ولدى يونغ في فكرة النماذج العليا – في تحليلاته للظاهرة الشعرية التي يقابلها التنوع الثقافي لدى شتراوس – نجد أنها أي النماذج العليا موجودة في كل حلقات سلسلة النقل – أو التعبير- كتصوّرات في اللاوعي عند الشاعر، وكموضوعات مترددة أو سلاسل من الصور في الشعر- وكتصورات في اللاوعي عند القارئ أو عند الجمهور. وهذا مبنيّ على فكرته عن «اللاوعي الجماعي» الذي يختزن الماضي الجنسيّ، وهو الذي ولّد الأبطال الأسطوريين للبدائيين، ولا يزال يولد أخيلة فردية مشابهة للرجل المتمدّن، وهو الذي يجد تعبيره الأكبر في رمزية تتجاوز حدود الزمان غير أنّها مألوفة نسبيًا، وهي رمزية ما تزال تتكرر أبدًا. وكم تبدو خلاّبة هذه النظرية، في نظر أديب مثل جويس تأثر بفيكو وكان يفتش عن سيكولوجية يستعملها ليخلق «القاسم المشترك الأعظم» بين الناس جميعًا.
إننا عند التفكير بالشاعر في تحليلات يونغ نجد أنه يعبر عن وعي الأمة وتراثها ولنا في التاريخ العربي ما يكفي لتوضيح ذلك، فالحضارة العربية قامت على ذلك الأس الذي يختزل في ذاكرته كل اللامتغيرات البنيوية التي نجدها عند أي شاعر آخر في العالم ولدى أي شعب. ويعبر شتراوس عن ذلك بطريقة الأنثروبولوجيين فيدعو إلى التسامح مع الثقافات الأخرى، وأن نتعلم تقبّل اختلافات الإنسانية، ذلك ما يسميه بالنسبية الثقافية، فليس هناك ثقافة لها الحق في النظر إلى ذاتها باعتبارها أرقى من الثقافات الأخرى، فهو يلاحظ، انطلاقا من دراسته للأساطير والقواعد الاجتماعية لمختلف الثقافات نواة أساسية تمثل لا متغيرات بنيوية في كلّ بقاع العالم مثل علاقات المحرمات، فهذا الممنوع يحضر في كلّ المجتمعات ويمثل لا متغير بنيوي يسمح في كلّ المجتمعات من التحول من الإنسان البيولوجي إلى الإنسان الاجتماعي. ومن هذا المنطلق يقرّ ليفي شتراوس بأنه: «ليس هناك حضارة بدائية وأخرى متطورة»، بل هناك إجابات مختلفة لمشكلات أساسية ومتماثلة، وما يسميه العنصريون بالمتوحشين هم أيضا يفكرون وفكرهم ليس أقلّ مرتبة من فكر الغربيين، بل هو فقط فكر يشتغل بطريقة مختلفة عن فكر الغربيين أي أنه موجود لكن باختلاف الكيفية في تعاطي ذلك الوجود مع بعضه.

كارل يونغ

وبالمثل نجد ذلك لدى يونغ في نماذجه العليا التي يشرح كيفية انتقالها ودوامها واستمرارها فيصفها بأنها تجارب بدائية تنطبع في نسيج الدماغ على نحو ما، ولذلك فإنه من الضروري أن نؤمن بأن بعض الخصائص المكتسبة تُورّث، وأن نظرية فايسمان العظيمة، عن استمرار البلازما الجرثومية لا بد من أن تتحطم (لا تتخلق البلازما الجرثومية أبدًا من البلازما الجسمية ومن ثمّ لا تستطيع أن تحدث ما لها من تغيرات تجريبية).
ويونغ كما وصف ما وصل إليه في هذه النظرية المنتقدون يعتقد أنه وجد البرهان على الانبعاث التلقائي لهذه النماذج القديمة في الأحلام والأوهام عند أفراد لم يجدوا طريقهم إلى المادة الثقافية التي تتجسم فيها هذه النماذج. لكن نظرية القرابة لدى شتراوس جاءت لتعيد إنتاج نظرية يونغ عن النماذج العليا بطريقة أكثر جاذبية وأكثر وعياً وأكثر تلبية لحاجة الإنسانية، فيؤكد شتراوس أنه ليس هناك مجتمع ترسّبي في ذاته وبذاته، والتاريخ الترسبي ليس خصوصية بعض الأعراق أو بعض الثقافات، بل هو نتيجة سلوك ثقافي، هو ضرب من وجود الثقافات يتمثل في وجودها معا، مثال ذلك قضية القديم والمحدث والصراع بينهما الذي سيظل ثابتا دائما وتقابله ثقافة متحولة، لنجد أن الثقافة العامة هي ثقافة هذا وذاك متصارعة، وهكذا يستخلص ليفي شتراوس أن التقاء الثقافات قد يؤدي إلى نتيجتين، فإما أن يؤدي إلى تصدّع وانهيار نموذج أحد المجتمعات وإما أن يؤدي إلى تأليف أصيل بمعنى ولادة نموذج ثالث لا يمكن اختزاله في النموذجين السابقين. وهذا يعني أنه ليس هناك تلاقح حضاري من دون مستفيد والمستفيد الأوّل هو ما يسميه ليفي شتراوس بالحضارة العالمية التي لا تمثل حضارة متميزة عن الحضارات الأخرى ومتمتعة بالقدر نفسه من الواقعية، وإنما هي فكرة مجردة. ومساهمة الثقافات الفعلية المختلفة لا تقتصر على لائحة ابتكاراتها الخاصة، خاصة أنّ البحث عن جدارة ثقافة ما باختراع أو بآخر هو أمر لا يمكن التثبت منه، ثم إن المساهمات الثقافية يمكن توزيعها إلى صنفين، فمن جهة لدينا مجموعة من الإضافات والمكتسبات المعزولة التي يسهل تقييم أهميتها وهي محدودة، ومن الجهة المقابلة لدينا إسهامات نسقية ترتبط بالطريقة الخاصة التي يختارها كلّ مجتمع للتعبير أو لإشباع مجموع طموحات إنسانية، والمشكل بالنسبة لشتراوس لا يتمثل في قدرة مجتمع ما على الانتفاع من نمط عيش جيرانه، ولكن إذا ما كان هذا المجتمع قادرا وإلى أيّ مدى يكون قادرا على فهم ومعرفة جيرانه؟ ومن هذا المنطلق فإن الحضارة العالمية لا يمكن أن توجد إلا كفكرة، من حيث أنها: تحالف للثقافات التي تحتفظ كلّ واحدة منها بخصوصيتها.
إن مفهوم الجماعات الإثنية لاقى كثيرا من التضارب عندما ذهب البعض إلى تحديد نطاقه، فكان يتسع حيناً ليشمل كل أشكال التمايز لتعبر بذلك الجماعة الإثنية عن خط متواصل يبدأ بالقبيلة وينتهي بالأمة، وحيناً يضيق ليقتصر على التمايز العرقي دون سواه. ونتيجة لهذا حدث نوع من الفصل التعسفي بين مفهوم الجماعة العرقية، بمعنى تلك الجماعة التي تتميز بمجموعة من التقاليد الثقافية والاجتماعية الخاصة بها، ومفهوم الجماعة العنصرية، بمعنى تلك الجماعة التي تتمتع بمجموعة من الخصائص البيولوجية، على الرغم من أنه في صحيح اللغة العربية ليس ثمة فارق يذكر بين مفهومى العرق والعنصر فكلاهما يشير إلى الأصل، علاوة على أنه في ظل امتزاج الدماء واختلاط العروق يصعب الحديث عن جماعة عرقية نقية، لذلك فما ينطبق على الأصل ينطبق على الثقافة، فمفهوم التفوق الثقافي ليس إلاّ وليد الحكم المسبقة الذي تمثله المركزية الإثنية أو الميل لاعتبار ثقافتنا الخاصة نموذجا للإنسان ومن وجهة النظر الأنثروبولوجية ليس هناك سلّم مفاضلة بين الثقافات، وإنما هناك تنوّع نسبي بين الثقافات.
وهكذا فإن المختلف بثقافته لا يعتبر فقط غريبا بل أيضا بربريا، فالغريب هو الآخر بالنسبة إلى الأنا، هو من ينتمي إلى ثقافة مختلفة والبربريّ هو الغريب الذي أموضعه في مرتبة أقلّ من الإنسان. لذلك يسمي كلود ليفي شتراوس مركزية إثنية الحكم المسبق الذي لا يحكم قيميا على ثقافة أخرى إلا انطلاقا من ثقافته الخاصة. وهذا يعني أنّ المركزية الاثنية بالنسبة للوعي الجماعي، هي عند كلود ليفي شتراوس نظير الأنانية بالنسبة للوعي الفردي. لذلك يدعونا كلود ليفي شتراوس إلى التسامح مع الثقافات الأخرى وأن نتعلم تقبّل اختلافات الإنسانية، ذلك ما يسميه بالنسبية الثقافية، فليس هناك ثقافة لها الحق في النظر إلى ذاتها باعتبارها أرقى من الثقافات الأخرى، ولذلك يقول كلود ليفي شتراوس: «إن البربري هو ما يعتقد في وجود البربرية».
كاتب يمني

 

 

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً