الجماعة البحثية العربية بين إيران وتركيا…بقلم:مصطفى اللباد

2016/10/10
Updated 2016/10/10 at 10:53 صباحًا

index

لا مستقبل لجماعة بحثية عربية تسعى لخدمة الأهداف والتطلعات الطبيعية والمشروعة لشعوبها في التقدم والحداثة، بحثياً وفكرياً وليس شعاراتياً وإعلامياً، إلا بالتمايز عن والاشتباك ـ تعاوناً وصراعاً – مع النموذجين الإيراني والتركي؛ ومن ثم مواجهة التحدّي الفكري والسياسي الذي يطرحانه. يتبنّى النموذجان بلا تحفظ تقريباً نموذجاً اقتصادياً ـ اجتماعياً غير متّفق عليه بالضرورة بين أوسع الشرائح العربية، ويموّهان ثانياً طابعهما القومي المغاير بشعارات دينية، وثالثاً يلتقيان موضوعياً ـ على أرضية وظيفتهما الجيوبوليتيكية التاريخية ـ مع مراكز صناعة القرار العالمي في صراعات المنطقة. وبرغم صعوبة المشهد الراهن وثقل المهمة الفكرية المطروحة على الجماعة البحثية العربية، ربما يتوجّب علينا جميعاً في هذه اللحظات القاتمة تذكر أن التوازن الإقليمي الراهن ليس قدراً سرمدياً ولا يجسّد بأي حال نهاية التاريخ؛ وإنما أحد فصوله فقط!
ضعف الجماعة البحثية العربية
ومع التسليم بالضعف النسبي للجماعة البحثية العربية في مجال الدراسات الإقليمية والشرق أوسطية مقارنة بالجماعات البحثية في الدول غير العربية في المنطقة، إلا أن أولى المهمات الملقاة على عاتق الجماعة البحثية العربية تتمثل في وضع الأدوار الإقليمية لكل من إيران وتركيا داخل الإطار البحثي والموضوعي المضبوط فكرياً. في هذا السياق، يتطلب الأمر ثورة على النمط الشائع لدينا نحن العرب، أي الانحياز عاطفياً وبالتالي فكرياً مع أو ضد الدولة الإقليمية محل البحث. صحيح أن هذا الانحياز ـ سواء مع أو ضد ـ يُعفي الباحثين من مشقة التحليل الموضوعي للظواهر بجوانبها المختلفة والمركبة، ويضمن بالتالي رأياً جاهزاً دوماً يستقطب تأييد قسم من الجمهور المنحاز عاطفياً بغض النظر عن دقة «التحليل» وصوابيته. إلا أن نتيجة ذلك النمط الشائع عربياً تنعكس في ضحالة إنتاج الجماعة البحثية العربية المتعلق بدراسات الشرق الأوسط، وقصورها الذي يبدو مزمناً عن مواجهة التحديات العلمية والفكرية الملقاة على عاتقها، حتى بحكم توصيفها المجرد كجماعة بحثية. وفي الأحوال كلها، لا خيال سياسي عربي ممكن من دون جماعة بحثية عربية قادرة ومتسلطة على أدواتها البحثية والمعرفية، بحيث يكون التناغم بين الأبحاث العربية وعملية صنع القرار قائماً على الواقع والمصالح الوطنية. وربّما تكون حالة الجماعة البحثية العربية في مجال الدراسات الإقليمية راهناً مؤشراً على أن سياسات الدول العربية ستبقى محكومة بردات الفعل الموسمية على أحداث بعينها في أحسن الأحوال.
توسّلت كل من إيران وتركيا ـ باختلاف الأدوات ـ البعد المذهبي في سياساتهما حيال المشرق العربي وذلك بغرض تجسير الفجوة القومية مع العرب، عبر التركيز على التحالف مع التيارات الدينية الإسلامية لتكوين شبكة نفوذ في المنطقة اعتماداً على المشتركات الدينية والمذهبية. وإذا كانت تركيا قد توسّلت صورة الطرف العلماني غير الطائفي عند بدايات عودتها إلى المنطقة مع صعود «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة العام 2002، إلا أن احتدام التناحر المذهبي في المنطقة العربية عموماً والمشرق العربي خصوصاً، هيّأ الأرضية لتركيا في النزول لاحقاً إلى الساحة الطائفية بشكل أو آخر بادعاء «حماية السُنٌة» في سوريا والعراق. في هذا السياق يبدو الحياد المذهبي لدى الجماعة البحثية العربية أمراً ضرورياً للتحليل العلمي ومطلوباً للخيال السياسي بغرض تعزيز الكيانية العربية في معادلات المنطقة، وليس فقط لضمان التفوق الأخلاقي في المساجلات السياسية الطائفية. ويعود النجاح النسبي للنموذجين في طبعتيهما الدينية (شيعياً، و «عدالة وتنمية») إلى كون هذه الطبعة الدينية تفرد غطاء مزدوجاً على الأبصار: للتمويه على التناقضات الاجتماعية الداخلية للنموذجين من ناحية، ولتمييع العامل القومي المتمايز عن العرب بحكم توصيفه وطبيعته الإيرانية والتركية من ناحية أخرى.
«عدمية قومية»
انتشرت «عدمية قومية» بين الباحثين العرب من اليمين إلى اليسار في العقود الأخيرة، تأثراً بأفكار واتجاهات أيديولوجية بعينها (لا تقتصر على تيار فكري بذاته)، وكرد فعل على تراجع المشروع العربي في معادلات المنطقة والانتكاسات المتلاحقة التي حلّت بأنظمة رفعت لواء القومية العربية خدمة لأغراضها الذاتية. لا تطالب هذه المقالة الجماعة البحثية العربية بتبني ميول أيديولوجية بعينها ولا حتى الانحياز إلى تجارب سياسية عربية سابقة، وإنما غرضها التنبيه إلى أهمية العامل القومي في صياغة المشروعات الإقليمية، تلك التي لا تستقيم بديهياً ـ كما رأينا في الحالتين التركية والإيرانية – من دون هوية قومية متبلورة. بمعنى أن صياغة رقم عربي في معادلات المنطقة ونقطته الانطلاقية تبدأ من اجتراح الجماعة البحثية العربية خيالاً سياسياً للدخول كطرف في المعادلات الإقليمية القائمة، يستلزم بالضرورة الاعتراف بقواسم مشتركة بين الدول العربية. وفي الوقت نفسه لا تلزم هذه المقالة أياً من الباحثين العرب باتجاه فكري أو أيديولوجي أو سياسي ما، فالبحث العلمي بحكم طبيعته وتوصيفه ليس بحثاً أيديولوجياً يرى الوقائع والأحداث من منظار منحاز ابتداء.
لم يكن التصور القومي عند العرب تاريخياً وسيلة لبناء الإمبراطوريات أو إثبات تفوق ما عرقي أو حضاري أو ثقافي للعرب على شعوب أخرى في المنطقة وخارجها، وإنما وسيلة لتحقيق مقاصد وطنية واضحة مثل التحرر القومي والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية ـ برغم كل العثرات والمثالب في التطبيق ـ وهي مقاصد لا يمكن الوصول إليها عبر الارتباط بأي من النموذجين القوميين التركي والإيراني. يملك العرب مع كل من تركيا وإيران أواصر من الجوار ومشتركات ثقافية وحضارية، وهما كيانان قوميان حضاريان لعبا أدوارهما في تاريخ المنطقة في حقب زمنية متفاوتة. على ذلك يتوجّب أن يكون الانفتاح عليهما والتعاون معهما وفقاً لأجندة مدروسة بحثياً وفكرياً، عبر الانتباه إلى الزمنية المحضة والنسبية المطلقة لأدوارهما الإقليمية الراهنة. بكلمات أخرى، على الجماعة البحثية العربية الموازنة الدقيقة بين الانفتاح بنديّة على كل من إيران وتركيا ثقافة ومجتمعاً وتيارات سياسية، ودراسة جوانب القوة غير المنكورة في كلا النموذجين؛ وفي الوقت نفسه رفض الانصياع أمام مشروعاتهما الإقليمية بمضامينها الطائفية والاجتماعية المعلومة!
السفير

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً