لا يمكن للعين البصيرة إلا أن تدرك ان أمريكا ومنذ عدة سنوات، هي في أسوأ حالاتها وأكثرها ارتباكا فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والتعامل مع الأزمات العالمية، والتي لن يكون آخرها الأزمة الأوكرانية.
لقد كان الارتباك واضحا في تعامل أميركا مع ما سمي بالربيع العربي، ابتداء من تونس وكذلك في ليبيا ، وتجلى بعد ذلك فيما يتعلق بالأحداث في مصر والتي اقلها الإطاحة بالسفيرة الأمريكية العجوز باترسون.
لم يكن الأمر بأفضل من ذلك في التعامل مع القضية الفلسطينية، حيث لم يتمكن كيري بدبلوماسيته المعروفة، من إحراز تقدم ولو بسيط، ولم يحصد سوى فشلا ذريعاً افقده مصداقيته، وتعاطت معه دولة الاحتلال بشكل مُذِل، لم يواجهه أي من وزراء الخارجية الأمريكيين من قبل.
أما الطامة الكبرى فكانت في الموضوع السوري، حيث كان الأمر مختلفا تماما، فلم يكن الواقع فيها كما هو حال دول “الربيع العربي” الأخرى، حيث كانت ساحة لحرب طاحنة بين القوى الإقليمية والعالمية المختلفة، وأصبح “الصدام” فيها مكشوفا بين أميركا وروسيا، حيث اثبت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الحكمة والحنكة السياسية والمناورة والدفاع عن مصالح روسيا ما افقد كل التكتيكات الأمريكية فاعليتها وأثرها، ولم تتمكن من الفوز بسوريا، وذهبت جهودها أدراج الرياح.
وإذا كانت سوريا خطا احمر بالنسبة لروسيا، فإن أوكرانيا تعتبر خطا أكثر “احمرارا”، وان من غير الممكن السماح لأي كان الاقتراب من “حديقة روسيا الخلفية” لأن في ذلك من المخاطر ما لا يمكن تقبله أو السكوت عليه.
التراجع الأمريكي أمام الزحف الروسي لم يأت من فراغ، حيث كانت أميركا قد استفردت بالعالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان لأمريكا عقدين “ذهبيين”، لعبت خلالهما في العالم كما لم تلعب قوة عظمى في العصر الحديث من قبل، حيث بغياب الصين عن المشهد “التصادمي” مع أميركا، مارست واشنطن كل أنواع غرور القوة، فغزت العراق ودمرت الدولة العراقية من “أساساتها”، وفعلت في أفغانستان أفعال “الشياطين”، ولم يتبق في ذلك البلد ما يمكن تدميره.
أميركا التي “شطحت” بغرور قوتها، لم تتوقع مقاومة شرسة في العراق يمكن أن تضطرها إلى الانسحاب، وكذلك فيما يتعلق بأفغانستان، حيث بدأ نجم غطرستها بالأفول، وصارت تفقد هيبتها بالتدريج، وتجلى ذلك في العديد من البلدان والأزمات، سواء تلك التي تمت الإشارة إليها أو غيرها.
لقد أسفر غزو أمريكا للعراق وأفغانستان عن ترد واضح للقوة الاقتصادية الأمريكية، كما لم يُبق من هيبتها العسكرية سوى الشيء القليل، هذا عدا عن انتهاء حلمها بعصر ونمط وثقافة وسلوك أمريكي يعم العالم. وذهبت مقولة من ليس معنا فهو ضدنا إلى غير رجعة.
التلويح و التلميح الأمريكي بالتصعيد، والتهديدات الجوفاء التي نسمعها بين الفينة والأخرى، ليس سوى حشرجة الموت الأمريكية، التي تنبؤنا بانتهاء العصر الأمريكي، وبالشرق الأوسط الجديد، وهكذا سيكون عليه الحال في الأزمة الأوكرانية.
اعتقاد البعض بأن الموقف الروسي فيما يتعلق بأوكرانيا ليس سوى مناورة أو عملية استعراضية، إنما هو اعتقاد مغلوط وبعيد عن الواقع وغير مدرك لأهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا، حيث تعتبر أوكرانيا مدخلا مهما للعديد من الدول المحيطة، فإذا ما نجحت المؤامرة الأمريكية في كييف فهي ستنتقل بوجهها الأكثر بشاعة إلى تلك الدول، وهذا ما لا يمكن أن تقبل به روسيا.
الولايات المتحدة التي تعلم أن الحلفاء الغربيين لن “ينصاعوا” إلى توجهاتها “العدوانية” تجاه موسكو من خلال إعمال وإجراءات هوجاء، لم تجد أكثر حماسة من أي من الحلفاء كما وجدته في دولة الاحتلال الصهيوني، التي كانت دوما جاهزة للعب ادوار تخريبية وتآمرية في كل بقاع العالم، وقد شهد العالم كيف كان دور دولة الكيان في جورجيا.
موسكو بدورها تدرك الدور الذي تلعبه أمريكا ودولة الكيان الصهيوني، كما وتعلم بأن المواقف الأوروبية ليس كما هي رغبة واشنطن، ولهذا فهي لا تتوقف عن إرسال “رسائل” تجاه أوروبا لطمأنتها، كما ان أوروبا تحاول النأي بنفسها عن المواقف الأمريكية ولو على استحياء، “باستثناء ألمانيا” التي من الواضح انها لن تقبل الدوران أبدا في هذه المسألة في فلك أمريكا
القلق الأمريكي يأتي من خلال معرفتها بالإمكانيات والقدرات المتوفرة لدى الروس، وكذلك الخوف من عدم استجابة أوروبا أو التساوق مع الأهداف والرغبات الأمريكية، مما يعني في نهاية المطاف، مزيدا من الإضعاف للدور الأمريكي “العالمي”، والمزيد من تلطيخ وجهها “البشع” أمام العالم رسميا وشعبيا، وهذا ما سيرفع أسهم الدولة الروسية وكذلك اعتبارها، ما سيؤهلها لاستعادة دورها المفقود منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وهذا أشد ما تخشاه الولايات المتحدة.