“ربما نكون مع الوقت قادرين على مسامحة العرب على قتلهم أبناءنا، لكنه سيكون من الأصعب بالنسبة لنا مسامحتهم لأنهم أجبرونا على قتل أبنائهم”.
غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل (1969)
“إنهم ليسوا مثلنا، فنحن نقدس الحياة وهم يقدسون الموت”.
بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل (2014)
“رغم أن ذلك ربما ينطوي على قليل من العزاء، فإننا يجب أن نجد السلوى في الحكومة الأخلاقية، والمجتمع والثقافة الأخلاقية التي صنعناها”.
يهوشع عوز، معهد ديمقراطية إسرائيل (2014)
لعل من أكثر ما يثير الحنق في سلوك إسرائيل الوحشي تجاه الفلسطينيين هو تصميمها الدؤوب على إلباس أفعالها رداء الإدعاء بالأخلاقية. وبطبيعة الحال، ليس هناك أي جديد في هذا. فعلى مر التاريخ، سعت الأمم الأكثر قوة دائماً إلى تصوير نفسها على أنها أكثر نبلاً، وأن غزواتها ترمي دائماً إلى خدمة هدف سامٍ.
في الوقت الذي زرعت فيه القوى الكبرى في أوروبا الخراب والدمار عند جيرانها الأضعف، أو عند الآسيويين والأفارقة والأميركيين اللاتينيين، فإنها كانت مقتنعة بربريتها الخاصة، على الأقل في عقولها، باعتبار أن هذه البربرية من إملاء الحتمية الحضارية. لكن ثمة عشرات الملايين من الموتى الإيرلنديين والبولنديين واليهود والجزائريين والأفارقة والآسيويين الجنوبيين والفيتناميين وآخرين لا يعدون ولا يحصون، ممن يشهدون على عكس ذلك.
كأميركيين، نجد أنفسنا وقد ورثنا هذا الغطاء. ارتديناه على نحو جيد واحتفلنا بما يمكن أن توصف فقط بأنها حملات إبادة جماعية ضد الشعوب الوطنية الأصلية لقارتنا وكأنها انتصار على الوحشية. وصورنا تقدمنا الوحشي باتجاه الغرب على أنه تقدم ووفاء بنعمة قدرية أسبغها الله علينا. وقد أفضى استخدامنا غير القابل للتبرير مطلقاً للأسلحة النووية، ورفضنا إبلاغ اليابانيين عن آثار الإشعاعات في نهاية المطاف إلى فقدان حيوات مئات الآلاف من الأبرياء. وبالرغم من هذا، وصفنا ذلك القصف بأنه “إنقاذ للحياة”، ومجدنا الدور الذي لعبه في وضع حد للحرب. ويمكن قول الكثير من الشيء نفسه عن استخدامنا لقنابل النابالم والقصف الشامل في فيتنام، والأحدث، عقوباتنا التي فرضناها على مدار عقد على العراق والتي أعقبها الغزو والاحتلال. وقد وصفناها بأنها “جلب للحرية”، لكن هناك أوصافا أخرى تخطر على البال لدى ملايين القتلى والمشوهين والمعذبين والمشردين العراقيين.
ليست إسرائيل غريبة عن هذه اللعبة أيضاً. فمنذ البداية، نظر مؤسسوها إلى أنفسهم على أنهم حاملون لراية الحضارة الغربية. وفي هذه “الدولة اليهودية”، وصف تيودور هرتزل طموحه لخلق مستعمرة تكون “متراساً لأوروبا في وجه آسيا.. نقطة أمامية للحضارة ضد البربرية”. كما استشرف رفيقه، ماكس نوردو، أن المؤسسة الصهيونية ستكون توسيعاً “للحدود الأخلاقية من أوروبا وحتى الفرات”. وكتب زئيف جابوتنسكي: “سوف نكون دائماً إلى جانب الغرب، لأن الغرب يمثل دائماً ثقافة أكثر تفوقاً من الشرق… ونحن اليوم نمثل الجهة الأكثر عمقاً وإخلاصاً لحمل راية تلك الثقافة”.
من جهتهم، رأى المستوطنون الأوروبيون الصهاينة في فلسطين، في حينه، في أنفسهم مستعمرين يجلبون التقدم والحضارة إلى أرض مهملة يسكنها شعب متخلف -حتى أنهم أشاروا إلى العرب الأصليين على أنهم “هنود حمر”— مجرد عقبات ولا حقوق لهم وتجب إزالتهم لتمهيد الطريق أمام مؤسسة أكثر نبلاً. وقد التقط فكرتهم الأسطورية في الثقافة الشعبية ليون أوريس في كتابه وفيلمه “الهجرة” اللذين يصوران الإسرائيليين على أنهم شعب أخلاقي يسعى فقط إلى الحرية والمستقبل، والذي شق طريقه إلى الأمام بالقوة من أجل مواجهة “ثقافة همجية” أرادت قتله وحسب.
لقد تم التشبث بهذه الأسطورة القوية في الثقافة الإسرائيلية وثبتت بقوة لنحو قرن. وبالرغم من حملات “التطهير العرقي” التي نفذتها المؤسسة الصهيونية في العام 1948، والمجازر الموثقة والجهد المعروف لمحو القرى والتاريخ الفلسطينيين وعمليات الاحتلال وقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين والطرد القسري للآلاف واستخدام التعذيب والاعتقال المطول من دون محاكمة أو توجيه اتهام، وممارسات الإذلال اليومي والحط من قدر شعب مقيد برمته- فإن العديد من الإسرائيليين -وليسوا كلهم على الرغم من ذلك- ما يزالون يرون في أنفسهم الأمة الأخلاقية الوحيدة في الشرق الأوسط.
هذا التناقض الصادم بين الكيفية التي يرى الإسرائيليون من خلالها أنفسهم وواقع ما يفعلونه، دفع القيادة الإسرائيلية إلى تطوير شكل غرائبي من الإنكار. إنهم لا يستطيعون الإقرار بأنهم يرتكبون أفعالاً تتسم بالشر، ولذلك ينكرونه -لا بل إنهم يقدمون أنفسهم على أنهم ضحايا لازدواجية أعدائهم. فعندما يقتل أبناء نائمون أو رجال يتابعون مباريات كأس العالم بقنابل “ليست ذكية جداً” تسقط على غزة، فإنهم يوجهون اللوم إلى حماس -لأنها كانت قد أمرتهم بأن يكونوا هناك. وعندما يلتقط المراسلون الصحفيون صوراً لمنازل مدمرة وحيوات محطمة، يصر المؤيدون لإسرائيل على القول بأن هذه الصور ممنتجة أو أعيد تدويرها.
بالنظر إلى هذه المنظومة العقلية، لا تعترف إسرائيل بأنها ترتكب أي خطأ. وما يقولونه الآن وما يصرون عليه هو وجوب أن نصدق أيضاً أن “إسرائيل لا تقتل الأبرياء. وإذا مات هؤلاء، فإن ذلك إما لأنهم مذنبون أو أن موتهم كان خطأ طرف آخر. وإذا ما مضيتَ في الإصرار على أن الأمر مسؤوليتنا، فإن ذلك يجب أن يعني أنك تحت تأثير أعدائنا”.
بطبيعة الحال، هناك حدود لدعاية القوي وإيهامه لذاته. ربما يظل مسيطراً بالطريقة التي تتم بها تغطية قصة غزة في الإعلام السائد الأميركي، لكن الحقيقة استطاعت أن تشق طريقها إلى معظم الإعلام في العالم وإلى معظم مستطلعي الإنترنت هنا في الولايات المتحدة. كما تمكن رؤية ذلك الوعي بالحقيقة أيضاً عند جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية والصحفيين الذين يشاهدون الأحداث، والذين ما يزالون منذ وقت طويل منتقدين حادين لتصرفات حكومتهم غير الأخلاقية.
في الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور، ما يزال الرعب في غزة مستمراً. وهذا هو العدوان الخامس الرئيسي الذي تشنه إسرائيل عليها في غضون تسع سنوات. أما متى سينتهي هذا وكيف، فغير واضح إلى الآن. ولكن، إليكم ما نعرفه تماماً وعلى وجه اليقين: لن يأتي أي خير من هذا الجنون؛ لن يكون هناك أي كاسبين؛ سوف يدفع الشعب الفلسطيني الثمن الأغلى؛ وعندما ينجلي الغبار وتجف الدموع، سيكون الفلسطينيون والإسرائيليون قد أصبحوا أكثر ألماً وسوف يشعرون بأنهم أصبحوا أقل أمناً، حيث سينتظر كل من الطرفين قدوم الجولة التالية من العنف. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يستمر نتنياهو وجماعته في الادعاء بأنهم الأمة الخلوقة، كل هذا في الوقت الذي سيحاولون فيه إرهاب وإخضاع أي طرف يجرو على عدم الموافقة. سوف يفعلون ذلك بحماس متجدد، لأن الأسطورة والإنكار –وعندما يفشل ذلك، التدجين والتخويف- هي الوسائل التي يستخدمها القوي من أجل فرض ادعائه بالأخلاقية.
جيمس زغبي — (واشنطن ووتش)
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني