يتوجّه الأتراك غداً إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيس للجمهورية، في أول انتخابات بالاقتراع المباشر، وبات شبه محسوماً أن رجب طيب أردوغان سيكون الرئيس الثاني عشر للجمهورية التركية. سيحقق الرجل النزق، تقريباً، حلمه في أن يصبح سلطاناً، وإن بصيغةٍ حديثة. وهو، عملياً، لن يحتاج كرسي الرئاسة إلا ليسبغ الشرعية على حكمه المطلق الذي بات مكرّساً عبر ممارساته التسلطية في السنوات الفائتة. صاحب المشاريع الإقليمية الخاسرة، سيفوز في المعركة الداخلية على معارضة علمانية عاجزة، وعلى مرشح رمزي للأقليلة الكردية. قد تعلو أصوات تنتقد مغامرات أردوغان الخارجية، قد يتظاهر غاضبون على قمعه للحريات عبر إغلاقه مواقع إلكترونية وهيمنته على وسائل الإعلام. قد تكتب الصحف عن جنون العظمة لدى أردوغان وعن قلة تهذيبه أحياناً. لكن الصناديق لن تلفظ الرجل الذي استطاع وحزبه انتشال تركيا من الحضيض الاقتصادي. غداً، تنطلق المعركة الفعلية للرجل، الذي يوجه أنظاره نحو انتخابات برلمانية مبكرة يحجز لحزبه فيها الأغلبية كي يتمكّن من تعديل النظام إلى رئاسي. لا شك أن يوم غد، سيكون بدايةً لكتابة تاريخ جديد لتركيا
ما خلا حدوث معجزة ما، فإن وصول رجب طيب أردوغان إلى سدّة الرئاسة غداً أو في الدورة الثانية على أبعد تقدير بات محسوماً. رئاسة الجمهورية لن تكون نزهة بالنسبة إلى الرئيس الذي أفسد بنزقه العلاقات الخارجية لبلاده وبثّ الفرقة داخل المجتمع التركي أكثر من أي وقتٍ مضى. غير أن المرحلة المقبلة قد تشهد تغيرات لافتة، خصوصاً لجهة استدارة الجمهورية نحو الغرب، لكن هذه المرة على يد الرئيس الإسلامي .
يعلم رجب طيب أردوغان أن مسؤوليات كبيرة تنتظره بعد الفوز، خصوصاً أن بوادر التطرّف بدأت تغزو الساحة التركية، لا انطلاقاً مما يجري تداوله عبر موقع يوتيوب أو على المواقع التواصل الاجتماعي، بل من خلال وقائع هزّت الداخل التركي، مثل حرق مسجد «المحمدية» الجعفري، وحرق الخيمة الانتخابية التابعة لحزب «ديموقراطية الشعوب» الكردي.
كذلك فإن «الدولة الإسلامية» (داعش) لا يحتجز القنصل التركي و48 تركياً في الموصل فقط، فلقد بات وجوده واقعاً على أراضي تركيا، حيث أصبح مشهد خروج المصلين من المساجد ينادون لدعم الجهاد في صفوف «الدولة» طبيعياً ومكرراً في أنجاء الجمهورية.
الأمن هو واحد من المشاكل الكثيرة التي تنتظر أردوغان بعد دخوله قصر «شنقايا» الرئاسي. ولعلّ السؤال الأهم في هذا المجال هو كيف سيتمكّن الفريق الأمني والاستخباري لأردوغان من حلّ مشكلة الأمن في وقتٍ كان ولا يزال فيه على صلةٍ بالجماعات المتطرفة في سوريا والعراق؟ كذلك تطرح مشكلة المقاتلين الأتراك في صفوف «الدولة» وجماعات أخرى، بعدما تبيّن أن عددهم يتخطّى ألف مقاتل في «الدولة» وحدها.
لا ينقطع التواصل
بين واشنطن وأنقرة بشأن الشرق الأوسط
وإذا كانت الإشكاليات الإقليمية التي تعترض المرحلة المقبلة في عمر أردوغان السياسي كبيرة، فإن المعضلات الداخلية التي تراكمت بفعل سياسات أردوغان ذات النفس الفئوي، أكبر بكثير. فتركيا لم تشهد انقساماً مجتمعياً، سياسياً ومذهبياً، كالذي تعيشه اليوم. من هذا المنطلق، تطرح المرحلة المقبلة تساؤلات عدة حول الأجندة التي سيحملها الرئيس العتيد. كيف سيتمكّن أردوغان من رأب الصدع بين فئات مجتمعه، خصوصاً تجاه العلويين بعد التحريض الطويل ضدهم؟ هل سيلتزم بوعوده تجاه الأكراد في عملية السلام المستمرة مع حزب «العمال الكردستاني»؟ هل سيطلق سراح زعيم الحزب عبدالله أوجلان مثلما تعهد؟ هل سيستمر في معاقبة خصومه؟ وما هو مشروعه لتقريب وجهات النظر داخل بلاده، خصوصاً مع المعارضة العلمانية التي يزداد نفورها من سياساته يوماً بعد يوم؟ هل سيستمر في سياسة الكيدية التي مارسها خصوصاً على جماعة حليفه السابق فتح الله غولن؟ وأمنياً هل ستحتمل تركيا أعمالاً إرهابية في ظل اعتمادها بصورة كبيرة على السياحة؟
إلى ذلك، يحتدم النقاش حول التغيرات المقبلة على الحزب الحاكم بعد استقالة أردوغان من رئاسته، ومن سيكون الرئيس المقبل للحكومة في ظلّ عدم تمكّن رئيس الجمهورية الحالي عبدالله غول من تولي رئاسة الحكومة؟ وتمّ التساؤل بشأن احتمال تخطّي أردوغان للدستور واستمراره في رئاسة الحزب الحاكم. كذلك يتسع النقاش حول إمكانية إجراء أردوغان لانتخابات برلمانية مبكرة من أجل الحصول على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية لاشتراع دستور جديد.
إقليمياً، ما زالت الأحداث في الشرق الأوسط تسير بعكس رغبات أردوغان. وها هي تركيا بدأت تعاني من الأزمات المحيطة، حتى على الصعيد الاقتصادي. على سبيل المثال، انخفض حجم التبادل التجاري مع إسرائيل، على الرغم من محاولات أنقرة ألا يؤثر موقفها من غزة على العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل. كذلك بعدها مثل العراق أوسع سوق للصادرات التركية في المحيط، حيث كانت نسبة صادراتها إلى بلاد الرافدين تصل إلى 70% وقد وصلت اليوم إلى 35%. ويحاول أردوغان اليوم المشي على خطى إيران بالنسبة إلى العراق، لتوسيع رقعة نفوذه هناك. كذلك يسعى أردوغان إلى تعميق العلاقات الاقتصادية مع إيران، وسيعمل على دفع التبادل مع روسيا والجمهوريات التركمانية وأوروبا، بعدما فتح باب التصدير إلى أفريقيا في العام الماضي.
يعرف أردوغان أن النمو الذي سجلته تركيا رفعها إلى حجز موقع مرموق بين اقتصادات العالم، وجعل «العدالة والتنمية» يحكم البلاد لاثني عشر عاماً.
على صعيدٍ آخر، لا يتخلّّى أردوغان عن الغرب. فالعلاقة جدلية بين الطرفين؛ فعلى الرغم من فقدان الودّ بينهما، اعتاد الغرب أسلوب أردوغان، إذ لا ينقطع التواصل بين الولايات المتحدة وأنقرة اللتين ما زالتا تعملان وفق مصالح مشتركة على مسائل عدة في الشرق الأوسط. يعي الغرب أن النبرة التي اعتمدها أردوغان أخيراً، انتخابية موجهة إلى الداخل ولا تعبّر بأي شكل عن سياسته الخارجية. لذلك، ستبقى تركيا بوابة أوروبا الاقتصادية والأمنية، إذ إن موقعها الجيوسياسي طالما مثّل أهمية قصوى للولايات المتحدة في سياساتها تجاه أوروبا. لذلك يتوقّع إرساء «هدنة»، في المرحلة المقبلة، بين أردوغان والغرب الذي يعوّل على خط النفط الذي تؤمنه أنقرة…
الأخبار اللبنانية