الرد الفلسطيني الاول على نكبة عام 1948، كان ردا ثقافيا. فالفضل يعود للثقافة في إعادة تجميع القطع التي تبعثرت للذاكرة الوطنية الجمعية وإعادة ربطها بالمكان، بالوطن والعودة اليه، الارتباط بالقرية والمدينة والحقل والبيارة، والحي والمنزل، كما اعاد الرد الثقافي تأصيل الهوية الوطنية الفلسطينية، ومدى أهمية وحدة الشعب الفلسطيني، بعد ما تعرض له من تطهير عرقي وتشريد إلى اصقاع الأرض، والمهم ان الثقافة هي من مهدت وانضجت الوعي الوطني لانطلاقة الثورةالفلسطينية في منتصف ستينيات القرن العشرين. ومن بين الرواد الأوائل للرد الثقافي، الشاعر والاديب عبد الكريم الكرمي (ابو سلمى)، والشاعر هارون هاشم رشيد، ويوسف الخطيب، والشاعرة فدوى طوقان، وفي مجال الرواية برز من الرواد غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، وساهم كنفاني في بلورة السردية الفلسطينية للنكبة، والمعاناة التي عاشها الشعب الفلسطيني خلال هذه النكبة وبعدها، كما كان لكنفاني دور في ربط الذاكرة بالمكان وضرورة العودة اليه.
ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية، برز شعراء المقاومة، الذين كانوا امتدادا لشعر المقاومة الذي بدأ بالظهور قبل النكبة على يد إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي، وفي ستينيات القرن العشرين ظهر جيل جديد اكثر نضجا من ناحية الفكر السياسي وتحديثا في الشعر، ومثلوا روح الثورة، وبعدهاالثقافي، وشكلوا مشروعا ثقافيا وطنيا مكتمل الاركان، ساهم في صياغة المشروع الوطني الفلسطيني السياسي، وكانوا حماة الهوية الوطنية. ومن ابرز شعراء المقاومة، معين بسيسوومحمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وسالم جبران، وحنا ابو حنا، وعصام العبسي، واحمد دحبور، ومريد البرغوثي، وغيرهم، وفي الرواية،واصل كل من جبرا إبراهيم جبرا واميل حبيبي اعمالهما. كما ظهر روائيون جدد في ذروة النهضة الأدبية والثقافية الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي أمثال يحيى يخلف، وماجد ابو شرار، وتوفيق فياض، ورشاد ابو شاور وسحر خليفة وغيرهم.
المشهد الثقافي واصل تألقه في الثمانينيات وحتى تسعينيات القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، وظهرت خلال تلك الفترة اسماء مرموقة في الشعر والادب، والثقافة بشكل عام. الآن دور الثقافةالفلسطينية في صياغة المشهد السياسي تراجع في العقود الاخيرة، وبدت الثقافة، على الرغم ما فيها من ابداعات مهما بدت مبعثرة لا يجمعها مشروع ثقافي موحد، والمعروف ان آخر بصمة للمثقف في صياغة السياسة، هي بصمة محمود درويش عندما صاغ إعلان الاستقلال، الذي اصدره المجلس الوطني الفلسطيني، في الجزائر عام 1988، ومثل ما فيه من مضمون سياسي وطني وفكري ديمقراطي متماسك، وضع اسس المشروع الوطني الفلسطيني الذي لا يزال قائما ومعمولا به حتى اليوم. قد يكون تآكل الحالة الوطنية، اما بسبب الانقسام وفشل عملية السلام، ودخول المشهد السياسي الفلسطيني في أزمة عميقة هو السبب في بعثرة المشروع الثقافي وغياب اي دور حقيقي له في السياسة.
هناك كتاب وأدباء، وشعراء وروائيون مبدعون، لكنهم عزفوا عن الانخراط المباشر في الفعل السياسي اليومي، كما لم يعد يجمعهم المشروع الوطني ذاته، وليس السياسي وحده السبب، انما هو اختلاف واقع الفلسطينيين ومصالحهم من مكان إلى اخر، وهذا هو الاهم، فمن هم في الشتات ليسوا كحال من هم داخل الخط الاخضر، أوفي الأرض الفلسطينية المحتلة، ومنهم في قطاع غزة لم يعودوا كما من هم في الضفة او القدس الشرقية. فالادب في نهاية المطاف انعكاس للواقع، رغم ما يؤخذ على المثقف الفلسطيني اليوم هو عدم طرحه لرؤية ملهمة، كما كانت الثقافة والادب الفلسطيني منذ النكبة وبعدها وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين.
وكما هو واضح فإن ازمة الثقافة الفلسطينية هي اعمق واشمل من كونها انعكاسا لأزمة سياسية، هناك مشكلة في غياب الوحدة الواقعية للشعب الفلسطيني ذاته بالرغم من انه يبدو موحدا، في واقع الأمر هناك ظاهرة ترشدنا اليها الثقافة ايضا ان الشعب الفلسطيني، اصبح شعوبا لكل منها واقعه ومصالحه المختلفة، فالفلسطيني في مخيمات اللجوء ليس كالفلسطيني في الولايات المتحدة الأميركية او اوروبا، ولا كما هو في الدول العربية، وهناك فوارق بين دولة عربية وأخرى،وبين من هم في دول الخليج، او في سورية او لبنان.
قد نكون بحاجة لمشروع ثقافي يتلمس الواقع المشار اليه، وإلى سردية ثقافية تعيد توحيد الشعب الفلسطيني على اهداف محددة اكثر واقعية، وهذا يعيدنا لازمة المشروع السياسي. ما نرمي اليه هو ان تنهض الثقافة والمثقف الفلسطيني ليكونا عنصرا يعيدترميم الشروخ التي تسيطر على المشهد الفلسطيني العام، إلى مشروع يخاطب الشعب الفلسطيني بواقعية، وان يقدم رواية تقدم آفاقا تعيد الامل.