تدخل الحرب، اليوم، النصف الثاني من شهرها الثامن، بلا ضوء في آخر النفق العسكري والسياسي، أو نهاية قريبة لكارثة إنسانية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. قيل الكثير عن هذه الحرب. ولن يجد أحد، وسط هذا الطوفان اليومي الجارف من الصور والأخبار، صعوبة في العثور على جانب بعينه يستدعي التعليق.
ومع ذلك، ثمة حقيقة بادية للعيان لم تنل، بعد، ما تستحق من التأويل والتحليل. أعني أن كافة القوى المحلية والإقليمية والدولية المنخرطة فيها، أو المؤثرة عليها، مأزومة، وأن غياب الضوء في آخر النفق، لن يكون مفهوماً إلا على خلفية الأزمة نفسها. سنتكلّم في هذه المعالجة عن «العرب» وإسرائيل وأميركا، وفي مقالة لاحقة عن القوى النظامية وغير النظامية لما يُعرف «بمحور المقاومة».
لن نكف عن تكرار الكلام عن إكراهات الجغرافيا والتاريخ في علاقة المسألة الفلسطينية بالبلاد المصرية والشامية والعراقية، التي تشكّل مع البلاد المغاربية واليمانية، ما يمكن تسميته العالم العربي المفيد، بالمعنى الديموغرافي، والسياسي، والثقافي، والعسكري.
ولا نحتاج إلى وسيلة إيضاح أبعد من القمّة الأخيرة للتدليل على: فراغ القوّة، وانهيار مُفزع لتراتبية الأولوية والقوّة، وما يتصل بهذه وتلك من فوضى المصالح والرهانات، بل وحتى الزعرنات. لا فائدة من تشخيص المصالح والرهانات، أو وصفها بما يليق بها من أوصاف، كل ما في الأمر أن إكراهات التاريخ والجغرافيا كانت أهم الغائبين عن «قمّة المنامة»، ولعل في مجرد غيابها، بل والإصرار على تغييبها، ما يزوّد الباحث عن عناصر الأزمة بما يكفي من الشواهد والأدلة.
نُشخّص أزمة «العرب» إذاً، بتدهور حالة العالم العربي المفيد، نتيجة انسحاب مصر الطوعي والانتحاري من دور القوّة الإقليمية، وتحطيم سورية والعراق. لسنا في معرض الكلام عن الدوافع والأسباب، كل ما في الأمر أن عملية التدهور، التي تحاكي تراجيديا إغريقية صارمة، تسببت في الانهيار المفزع لتراتبية الأولوية والقوّة. وما عدا ذلك تفاصيل، بما فيها الطموح الفاوستي لقوى طرفية صغيرة، والمقارنة المخجلة بين موقف الدول العربية ودولة كجنوب أفريقيا، مثلاً.
نقترب، الآن، من أزمة الإسرائيليين، ونتخذ من الصراع المُعلن بين جنرالات مجلس الحرب ورئيس الحكومة نتنياهو، حول «اليوم التالي» للحرب، وسيلة إيضاح. ثمة الكثير مما يُقال. ومع ذلك، لم يعد من السابق لأوانه القول: إن الأسباب العميقة للخلاف وثيقة الصلة بتحولات ديموغرافية وأيديولوجية، عصفت بالدولة والمجتمع الإسرائيليَّين، على مدار عقود، فقسمتهما إلى معسكرَين، وأوصلتهما إلى حافة الحرب الأهلية.
لذا، يضيف إشهار الخلاف، خارج الغرف المغلقة، حطباً جديداً إلى وقود الحرب الأهلية على خطوط التماس. فلنلاحظ، أن بيني غانتس، الذي أشهر الخلاف، ذكر بند تجنيد المتدينين اليهود في قائمة المطالب بشأن «اليوم التالي» للحرب، إضافة إلى رفض الحكومة العسكرية لغزة، الذي تكرر في كلام وزير الدفاع.
وإذا شئنا اختزال أزمة الإسرائيليين، دولةً ومجتمعاً، بما قلّ ودلّ، فلن نجد أفضل من عبارة لغرامشي تُشخّص ملامح الأزمة في «قديم لم يمض تماماً، وجديد لم يُولد بعد». القديم الذي لم يمض تماماً هو الهيمنة الأشكنازية، التي فقدت رافعتها الاجتماعية نتيجة تحوّلات ديموغرافية جعلت منها أقلية، ونتيجة ما طرأ على مراكز قوتها التقليدية في النقابات، والكيبوتسات والتعاونيات، وفي الجيش، من تحوّلات.
وجد ما ذكرنا من تحوّلات ترجمة أيديولوجية في صعود موجة اليمين، وفي تقليص المساحة التقليدية لليسار، الذي صار كلمة منبوذة في قاموس السياسية الإسرائيلية، مقابل اتساع القاعدة الانتخابية لليمين و«الوسط». ومع ذلك، لم تتمكن قوى اليمين من ترجمة صعودها كجماعة أهلية مهيمنة إلى حد تبدو معه الدولة نفسها هيئة تمثيلية لقيمها السياسية والأخلاقية، ومصالحها الاجتماعية والاقتصادية، وميولها الأيديولوجية. ففي الدولة التي أنشأتها الجماعة الأشكنازية، وكذلك المراتب العليا في الجيش، والجامعات، والثقافة والفنون، والصحافة، والقضاء، وفي أوساط رجال الأعمال، والصناعيين، ثمة ممانعة قوية.
وبهذا المعنى تتموضع الحملة على المحكمة العليا من جانب ما يدعى باليمين القومي – الديني، والتظاهرات على مدار عشرة أشهر سبقت الحرب، وكذلك الصراع على «اليوم التالي» للحرب، بين معسكرَين يرى كلاهما في الآخر تهديداً لمستقبل الدولة نفسها، ويدرك كلاهما أن الحرب الحالية أصابت الدولة ومجتمعها بما قد يمكنه من الإطاحة بالآخر.
لذا، لا يبدو من قبيل المبالغة القول: إن مستقبل الإسرائيليين، دولة ومجتمعاً، وثيق الصلة بنتائج الحرب. وهذا يفسّر في جانب منه الكلام عن حرب أهلية وخطوط للتماس. وبهذا المعنى، تبقى أسئلة بشأن إمكانية حل التناقض بالمفاوضات والتسويات، أو الحرائق على خطوط التماس، ضرورية، ومشروعة تماماً.
أخيراً، نصل إلى أزمة الأميركيين، دولة ومجتمعاً. وهي، في جانب منها، أزمة شيخوخة وفقدان اتجاه، وفي جانب آخر هي مجتمع الفرجة في أعلى مراحله. وفي سياق كهذا، نُشخّص الأزمة في فقدان الثقة بالدولة، والقضاء، واللعبة الانتخابية، والدستور، وعودة المكبوت العنصري، والديني المسكون بنزعات قيامية (اقرأ: داعشية) والانفصالي.
وقد شاء مكر التاريخ أن يُترجم فقدان الثقة على يد تاجر عقارات (لا تتجاوز ثروته اللغوية عشرين مفردة) كما وصفه فيليب روث، ويحسب أنصاره بالملايين، حتى حين اتهمه كوميدي ساخر بارتداء حفاضات كتلك المستعملة للأطفال، خرج الأنصار في اليوم التالي بيافطات تشيد بحفاضات الأطفال.
لا نعرف كيف سيخرج الأميركيون دولة ومجتمعاً من الأزمة، كل ما في الأمر أن ما لا يحصى من بني البشر، ونحن منهم، يدفعون أثمانها الباهظة.