أمد/ اليسار يواصل الصعود فى أمريكا الجنوبية، بينما يصعد اليمين المتطرف فى أوروبا، فهل هذا تناقض أم تجليان مختلفان لأزمات متشابهة؟
المفارقة أن الولايات المتحدة بقيادة بايدن تنظر بقلق إلى ما يحدث فى الجانبين، وربما يقلقها صعود اليمين القومى فى أوروبا أكثر من صعود اليسار المعادى للولايات المتحدة فى حديقتها الخلفية، ولا تخفى إدارة بايدن انزعاجها من الظاهرتين.
لقد كان للولايات المتحدة أذرعها القوية فى جميع بلدان أمريكا الجنوبية، والتى جرى وصفها قديما باسم «جمهوريات الموز»، فى إشارة ساخرة لسيطرة شركات الفاكهة الأمريكية على عدد من بلدان الكاريبى وأمريكا الجنوبية، وامتد التعبير المتهكم ليشمل البلدان التى تعتمد على الاستثمارات الأمريكية المستحوذة على المواد الخام الزراعية والمعدنية فى العديد من بلدان أمريكا الجنوبية، وعلى رأسها هندوراس وجواتيمالا، واتسع المصطلح ليشمل البلدان الفقيرة والهشة فى إفريقيا وآسيا المعتمدة على صادرات المواد الخام،
لكن هذا الوضع يتغير بسرعة، فقد وهنت سيطرة الشركات الأمريكية بالقياس بالماضى، وفى العقود الأخيرة صعدت أحزاب اليسار بخطوات مرتجلة، نجحت أحيانا وفشلت حينا، لكنها تواصل السعى للتنمية الأكثر استقلالا، وتتعلم من التجارب الفاشلة، عازمة على تحقيق التوزيع العادل للثروة، والتخلص من الهيمنة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة، ولم تعد كوبا الدولة المتمردة الوحيدة فى الكاريبى، بل تمدد اليسار إلى بلدان كثيرة،
وإن كانت تجربة تشيلى هى الأكثر مأساوية، عندما فاز سلفادور أليندى برئاسة تشيلى كأول رئيس يسارى يتم انتخابه ديمقراطيا فى عام 1970، لتدبر المخابرات الأمريكية انقلابا على حكمه عام 1973 ويلقى مصرعه، إلا أن تشيلى عادت لحكم اليسار فى الشهر الماضى بانتخاب جابريل بوريك أصغر رئيس فى تاريخ البلاد، وقبلها انتخبت المكسيك أول رئيس يسارى فى تاريخها الحديث قبل ثلاث سنوات بتولى مانويل بويز الحكم، كما عاد حكم اليسار فى بوليفيا بعد انتخاب لويس آرسيه الذى كان يشغل وزارة الاقتصاد ومرشح «الحركة نحو الاشتراكية»،
وسبقه فوز اليسارى بيدرو كاستيو برئاسة البيرو، الذى قرر تأميم الصناعات الإستراتيجية، متحديا الإدارة الأمريكية، كما أعيد انتخاب دانيال أورتيجا لرئاسة نيكاراجوا رغم الحملات السياسية والإعلامية، ويحكم الأرجنتين الرئيس اليسارى البرتو فرنانديز، كما صمد الرئيس الفنزويلى مادورو فى الحكم رغم الحصار الاقتصادى ومحاولات الإطاحة به، بالإضافة إلى كوبا الرمز المهم ليسار أمريكا اللاتينية، ومن المتوقع عودة اليسار إلى البرازيل أكبر وأقوى دول أمريكا الجنوبية، بعد أن ثبتت براءة اليسارى العمالى لولا دى سيلفا من تهمة فساد أبعدته عن الترشح،
وهكذا يكون اليسار قد رسخ أقدامه فى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وفى مقابل هذا الصعود اليسارى فإن أوروبا تتجه نحو اليمين المتطرف، الذى يستفيد من فشل الأحزاب التقليدية، نتيجة استمرار الأزمات الاقتصادية المزمنة، والتى فشل اليمين المتبنى للعولمة فى حلها، وكذلك اليسار الإصلاحى الذى لم تختلف سياساته كثيرا عن اليمين المعتدل، ومع الارتفاع الكبير فى الديون، وتراجع معدلات النمو، وتفشى البطالة، كان اليمين القومى يتقدم بوصفه المنقذ، ملقيا باللوم على المهاجرين، الذين يرى أنهم حصلوا على الوظائف المتاحة، ونافسوا العمالة الوطنية، ويهددون الهوية القومية للبلدان الأوروبية،
وتعد فرنسا نموذجا لصعود اليمين المتطرف، فلم تعد ماريان لوبان الرمز الأكثر تطرفا، وظهر بقوة على الساحة منافس أكثر تطرفا هو إريك زمور الأشد عداء للمهاجرين، بل إن موجة التطرف اليمينى أصابت مرشحى الأحزاب التقليدية، وتبنى بعضهم أفكار اليمين المتطرف لمجاراة المد اليمينى، الذى يمتد إلى عموم أوروبا، حيث لعب الفشل فى مواجهة وباء كورونا دورا مؤثرا فى تعميق الأزمة الاقتصادية، بما ينذر بتحولات كبرى فى مسار أوروبا،
ويظل التساؤل حول سبب اختلاف خيارات أمريكا الجنوبية المتوجهة نحو اليسار وأوروبا المتوجهة نحو أقصى اليمين، أليست هذه مفارقة؟ إنها فى الجوهر ليست كذلك، فكلا التوجهين ينطلق من تداعيات أزمة الرأسمالية العالمية، لكن فقراء أمريكا الجنوبية يرون فى اليسار منقذا بوعود العدالة والاستقلال ورفض الهيمنة الأمريكية، بينما التمرد فى أوروبا يحن إلى الماضى الاستعمارى والإستعلاء القومى وكلاهما وجهان مختلفان يعبران عن أزمة الرأسمالية.
عن الأهرام