المرّة الأولى التي تسعى فيها إدارة جو بايدن وتنجح منذ بدء الحرب العدوانية في أكتوبر العام الماضي، حيث تمّ الاتفاق على وقف إطلاق النار بين المقاومة اللبنانية، وبين دولة الاحتلال.
ستنبري الأقلام الشّامتة، التي ستعود للقول: أما قلنا لكم، إنّ الحديث عن «محور المقاومة» ليس أكثر من خدمة أجندات إقليمية، لا علاقة لها بفلسطين والصراع الجاري على أرضها.
وسيقول هؤلاء لتبرير تحليلاتهم ومواقفهم المشكّكة والشّامتة بالمقاومة إنّ «محورها»، لم يعد قائماً، وقد ورّط المقاومة الفلسطينية في مغامرة جرّت قطاع غزّة إلى حرب إبادة، والقضية الفلسطينية إلى مزيدٍ من التيه والتشرذم وخسائر تكبّدها الشعب الفلسطيني كما لم يحصل قبل حرب العام 1948.
ومع أنّ الأوضاع لم تنتهِ بعد، إلى نتائج محسومة إلّا أنّ ما جرى لا يتعدّى كونه وقفا لإطلاق النار، أو هدنة قد تستمرّ لبضعة أيّام أو أسابيع، حتى يعود الصراع على أشُدّه.
لفهم أنّ المقاومة اللبنانية ولبنان تعرضا إلى ضغوط هائلة، وتهديدات جدّية من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وأنّ «حزب الله» اللبناني حرص منذ البداية، على اتباع تكتيك، خوض المعركة على حسابه، محاولاً تجنيب بلده وشعبه دفع الثمن، والحزب فعلاً قد دفع الثمن غالياً.
دولة الاحتلال بدورها أدركت المعادلة التي يشتغل عليها الحزب، ولذلك فإنّها وسّعت عدوانها، واستخدمت ذات الأساليب التي اتبعتها في القطاع، من حيث استهداف المدنيين، والمنشآت الصحية والمؤسّسات المالية، ومؤسّسات الدفاع المدني، والتهجير، فضلاً عن أنّ القصف شمل كل مناطق لبنان ومعابره الحدودية، حتى العاصمة بيروت.
يتّضح من ذلك أنّ قراءة الحزب تنطوي على خطأ كبير، حيث لم يدرك شمولية أهداف الحرب العدوانية الإسرائيلية، ما أدّى إلى خسارته جزءاً لا بأس به من قدراته العسكرية، فضلاً عن قياداته المدنية والعسكرية.
كان لا بدّ من أن يدرك الجميع أن بنيامين نتنياهو يخوض حرباً إجرامية بلا توقّف لأهداف بعيدة المدى فضلاً عن حماية مستقبله السياسي ومستقبل ائتلافه «اليميني» المتطرّف، ما كان ينبغي معه على الحزب أن يزجّ بقدراته العسكرية على نحوٍ واسع منذ البداية.
الاتفاق واجه معارضة واسعة من قبل جنرالات، وقيادة في «المعارضة» ووزراء، من بينهم بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، فضلاً عن آخرين، ما يشكّك في نوايا نتنياهو، الذي ما كان ليقنع هؤلاء بتمرير الاتفاق إلّا بوعود وخطط من تحت الطاولة.
في تصريح علني قال نتنياهو، إنّ جيشه قضى على معظم قدرات الحزب وأنّه سيتيح للمستوطنين العودة إلى بيوتهم في الشمال، وأنّ الاتفاق يؤدّي إلى فصل جبهة لبنان عن جبهة القطاع، وأنّ الاتفاق، أيضاً، سيمكّن دولة الاحتلال من حرية العمل لمنع الحزب من إعادة تسليح نفسه.
في الحقيقة، الاتفاق لا يتضمّن حقّ دولة الاحتلال في حرية العمل ضد الحزب وإنّما جاء ذلك في إطار ورقة الضمانات الأميركية للدولة العبرية، فالاتفاق ينصّ على حقّ الطرفين في الدفاع عن النفس، يعني ذلك أنّ للحزب حقاً متساوياً للردّ على أيّ خروقات إسرائيلية.
الاتفاق بصرف النظر عن تأويله من قبل دولة الاحتلال لا ينطوي على هزيمة للحزب، ولا يعطيها المبرّر لإعلان الانتصار.
فإذا افترضنا جدلاً أنّ الاتفاق سيخضع لعملية تنفيذ سلسة من قبل الحزب، فهل قدراته العسكرية موجودة في الجنوب فقط، وهل تمنع الـ10كم حتى «الليطاني» الصواريخ التي تجاوز مداها الـ150كم.
إذا كان مدركاً من قبل دولة الاحتلال فلماذا وافق نتنياهو على مثل هذا الاتفاق بينما المشجّعون على مواصلة الحرب كثر ومن بينهم رؤساء بلديات المستوطنات المتاخمة لجنوب لبنان.
أتجاوز الاعتقاد إلى المراهنة على أنّ نتنياهو قد خضع لضغوط شديدة وجدّية هذه المرّة من قبل أميركا، التي لا تتوقّف عن إعلان جدّيتها والتزامها بأمن دولة الاحتلال، وبأنّ هذا الاتفاق ينطوي على مصلحة لها.
إذا كان نتنياهو محكوما لحساباته الشخصية، وحسابات ائتلافه الحكومي الفاشي فإنّ أميركا تحكمها رؤية أوسع لمصالحها، ومصالح حلفائها وعلى رأسهم وفي مقدمتهم دولة الاحتلال.
كان نتنياهو يخشى من أن ترفع الإدارة الأميركية قبل رحيلها الغطاء عن دولة الاحتلال، وربّما تسمح بإصدار قرار ملزم من مجلس الأمن الدولي يقضي بوقف الحرب الإبادية.
وفي جعبة بايدن أدوات أخرى مهمّة للضغط الفعّال، سواء فيما يتعلق بتعليق بعض شحنات الأسلحة والذخائر، أو فيما يتعلق بدور محكمة الجنايات الدولية، وفعالية مواقف دول أخرى قد تجد فرصتها في ممارسة ضغط على دولة الاحتلال إذا اختارت إدارة بايدن ذلك.
لقد صدرت تلميحات ومؤشّرات على ما أشرنا إليه، ما يجعل موافقة نتنياهو على وقف إطلاق النار مفهوماً من قبل «معارضيه». يذكّرنا ذلك، بامتناع أميركا عن التصويت على قرار لمجلس الأمن يتعلق بوقف الاستيطان قبل أن يسلّم باراك أوباما مقعد الرئاسة لدونالد ترامب بأقلّ من شهر.
إذاً ثمّة ما يدعو للاعتقاد بأنّ ثمّة خديعة، وراء موافقة نتنياهو وانّه سيتحيّن الفرصة، وسيخلق الذرائع، لإفشال الاتفاق والعودة، إلى نهجه الأساسي وهو مواصلة الحرب العدوانية.
مواصلة الحرب بالنسبة لنتنياهو هي سرّ بقائه، وسرّ بقاء ائتلافه الحكومي الفاشي، ومفتاح الباب أمام استهداف البرنامج النووي الإيراني. ومواصلة سياسة إخضاع المنطقة وإعادة ترتيبها من موقع القوة.
60 يوماً هي الفترة التي يجيزها الاتفاق لإتمام الترتيبات الخاصة تنتهي بعد أن يسلّم بايدن البيت الأبيض، وهي كافية حتى ينقلب عليه نتنياهو في انتظار الحليف الأكبر.
خلال هذه الفترة، سيتحمّل الفلسطينيون أعباء استمرار الحرب الإبادية المستمرة فعلاً، للتسريع في تنفيذ «خطّة الجنرالات» في شمال القطاع، وقد تشهد الضفة الغربية تصعيداً كبيراً، فليس فقط استناداً إلى ما يصرّح به سموتريتش وبن غفير بل إن نتنياهو قال مؤخّراً، إنّه سيمضي في تدمير «حماس» في الضفة الغربية.
إن كان الاتفاق قد تخطّى لغماً هو قابل للانفجار فإنّ لدى نتنياهو ألغاما كثيرة قابلة للانفجار، ومن شأنها أن تبقى المنطقة برمّتها على صفيح ساخن.
عن صحيفة الايام