يتصرف الرئيس الأميركي باراك أوباما في الشرق الأوسط وكأنه غير مدرك للمخاطر التي تسببها سياساته. وغالباً ما يقال إن السفن الكبيرة لا تستطيع تغيير مسارها بسهولة أو بسرعة، لكن سفينة الدولة الأميركية تمخر عباب البحر متجهة نحو الاصطدام بجبل من الجليد. ويمكن للاصطدام بهذا الجبل أن يجعل من هجوم 11/9 يبدو وكأنه حادث مروري، مقارنة. ولحماية أميركا ومصالحها وحلفائها، فإن الأمر سيتطلب من أوباما اتخاذ إجراءات تصحيحية جسورة. وكلما كان ذلك أسرع في فترة رئاسته الثانية، كان ذلك أفضل.
لقد أسرت الأرقام الأخيرة اهتمام العالم -162 فلسطينياً قتلوا وجرح ألف آخرون في غزة، مقابل مقتل ستة إسرائيليين وجرح دزينة أو نحو ذلك. وقد صوتت 138 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح ترفيع منزلة فلسطين إلى دولة غير عضو مراقب، في حين صوتت ضد المشروع تسع دول وحسب -إسرائيل والولايات المتحدة، وكندا، وجمهورية التشيك، وبنما، وأربع دول صغيرة “جزر” في الباسيفيكي.
ومع أن هذه الأرقام صادمة كما تبدو -حيث توضح الإصابات غير المتكافئة في صراع غزة وزيادة العزلة الدولية لإسرائيل والولايات المتحدة- فإنها لا تحكي القصة بأكملها. فمثل الفقاعة أسفل سطح سيل الحمم البركانية المنصهرة، يكمن شيء لا يمكن حصره في أرقام: الكراهية. وفي أكثر من أربعة عقود أمضيتها في الكتابة عن الشرق الأوسط وفي التحدث مع العرب، نادراً ما وقعت على مثل هذا الكره لإسرائيل وهذا التعطش للانتقام وهذا الغضب من راعيها، القوة العظمى.
عندما يتم قمع الشعوب ويجري احتلالها ومحاصرتها وقتلها وتسرق أراضيها وتنكر عليها حقوقها وهويتها القومية، فإن القوة الوحشية ربما تستطيع أن تسكتها وتخضعها مؤقتاً. لكنها عندما تثور في نهاية المطاف، كما ينبغي أن تفعل، فإن من المحتم أن يكون الانفجار عنيفاً.
ويعرف العالم كله أن قادة الجناح اليميني في إسرائيل يريدون الأرض ولا يريدون السلام -وهي وجهة نظر يتقاسمها بتحمس المستوطنون وغيرهم من المتشددين. وقد بذل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وكل أولئك الذين من أمثاله كل شيء ممكن لتجنب التفاوض مع الفلسطينيين، نظراً لأن أي تفاوض ينطوي على مخاطر وقف إحراز تقدم باتجاه هدفهم المتمثل في إقامة “إسرائيل الكبرى”.
ويكن هؤلاء اليمينون الإسرائيليون مشاعر الكراهية للفلسطينيين المعتدلين؛ مثل محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، لأن المعتدلين يريدون السلام ووضع حد لسرقة إسرائيل للأرض. ويفضل أتباع اليمين الإسرائيلي أكثر بكثير المتشددين الفلسطينيين، مثل حماس، التي يستطيعون استبعادها باعتبار أنها تنظيم إرهابي من غير الممكن التفاوض معه. ويبقى القول المألوف لدى الجناح اليميني الإسرائيلي: “كيف لك أن تتفاوض مع واحد يريد قتلك؟”، وما تفتأ سياسة إسرائيل تقوم على زعزعة الثقة في المعتدلين، وصبغ المتشددين بصبغة الراديكاليين. ويشكل اغتيال القائد العسكري لحماس، أحمد الجعبري، مؤخراً، في وقت كان يدرس فيه اقتراح الموافقة على وقف إطلاق نار دائم مع إسرائيل، أحدث مثال صادم على ذلك. وكما كتب ريوفن بيداتسور في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، فقد “اغتالت إسرائيل الرجل الذي كان يملك القوة لعقد صفقة مع إسرائيل”.
لكن لا بد من إثارة سؤال في هذا المقام: كيف يستطيع بلد صغير قوامه سبعة ملايين شخص الاعتقاد بأن بإمكانه الوقوف في وجه مئات الملايين من العرب والإيرانيين والأتراك والعالم الإسلامي مترامي الأطراف من ورائهم، وبشكل أبدي؟ إنها الولايات المتحدة وحسب هي التي تستطيع إنقاذ إسرائيل من حماقة قادتها الانتحارية. لكن على الولايات المتحدة أن تتصرف بحيث تحمي نفسها من ضربة ارتدادية عنيفة إن هي فشلت في لجم الطموحات التوسعية لحليفتها، إسرائيل. ولا يمكن سوى للسلام، والسلام وحده، أن يضمن مستقبل إسرائيل ويحمي الولايات المتحدة من تهديد ضربة عربية مضادة.
كانت تطورات 11/9 دعوة إيقاظ قاسية لم تستوعبها الولايات المتحدة كما يجب حتى الآن. وتعد الموجة الراهنة من المشاعر القوية المعادية للأمركة في أفغانستان وباكستان واليمن والعديد من أجزاء العالم الإسلامي، بمثابة ضوء أحمر ثانٍ يجب على الولايات المتحدة بالتأكيد أن تلحظه. وكانت ثمة نذر مماثلة في الماضي. فقد أفضى الغضب الشيعي من الدعم الأميركي لإسرائيل بعد غزوها للبنان في العام 1982 إلى هجوم السيارة المفخخة الذي أسفر عن مقتل 241 جنديا من قوات البحرية الأميركية في مطار بيروت الدولي في 2 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1983. كما جاء تحذير آخر في الهجوم على السفينة “يو أس أس كول” في ميناء عدن، ما أفضى إلى مقتل 17 بحاراً أميركياً وقدح فتيل تمرد مناهض للأمركة ما يزال يكلف الأرواح حتى يومنا الحاضر. كما ألقى مقتل السفير الأميركي كريس ستيفنز في بنغازي يوم 12 أيلول (سبتمبر) ضوءاً ساطعاً على الكيفية التي ينظر من خلالها الإسلاميون إلى الولايات المتحدة. ثم، ألم يكن التصويت الأخير في الأمم المتحدة على وضع فلسطين تذكرة أخرى بما يفكر فيه العالم إزاء السياسات الأميركية من هذا الموضوع المثير للنزاع إلى حد كبير؟
سوف تسقط لحظة الحقيقة على أوباما قريباً. وسوف يحتاج إلى اتخاذ بعض الخيارات المؤلمة التي ستؤثر بشكل عميق على أمن أميركا وعلى موقفها في العالم. فهل تكون القيم الأميركية متطابقة فعلاً مع الأيديولوجية التوسعية المتجذرة عميقاً ووجهة نظر المستوطنين المتشددين والقوميين الدينيين في إسرائيل والقائمة على الكراهية للعرب؟ وهل تريد الولايات المتحدة حقيقة أن تكون إلى جانب العنصريين والفاشيين الذين يضطهدون ويقتلون الفلسطينيين ويحرقون حقولهم ويقطعون أشجار زيتونهم القديمة ويدنسون مساجدهم؟
لقد تعرض أوباما إلى الانتقاد لأنه لم يزر إسرائيل. وسيحين موعد القيام بذلك في وقت مبكر من العام المقبل. وإذا لم يكن باستطاعة القوة “الصلبة” وتلك “الناعمة” أن تقنع إسرائيل بتغيير نهجها، فهل من الممكن أن تكون جرعة قوة “ذكية” أكثر فعالية؟ يحتاج أوباما إلى إعلان شروط أميركا الخاصة بالإغلاق النهائي للصراع السلمي العربي الإسرائيلي، والذي يدمر سمعة أميركا ويجلب عقاباً عنيفاً إلى الأرض الأميركية نفسها. وهو يحتاج إلى تأمين دعم القوى العالمية لعقد مؤتمر دولي يملي على الأطراف شروط سلام المجموعة الدولية. ويجب عليه استخدام الصلاحيات الرئاسية لفرض حل الدولتين، ولإحلال السلام في الشرق الأوسط الذي يعاني من المشاكل بعمق -قبل أن يفوت الأوان.
وفي الأثناء، يطرح المتشائمون أن أوباما متعب من الشرق الأوسط، وبأنه لا يستطيع مواجهة نضال مرير مع الكونغرس المؤيد لإسرائيل، ناهيك عن الكوادر القوية للمحافظين الجدد وجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل. وذكر أنه لا يريد المجازفة بالتعرض لإذلال آخر مثل ذلك الذي تعرض له على يدي نتنياهو عندما حاول الضغط عليه ليوافق على تجميد المستوطنات في وقت مبكر من فترة رئاسته الأولى. وفي عموم الأحوال، يبدو الرئيس مقتنعاً بأنه مهما فعل أو لم يفعل، فإن العرب الأغنياء بالنفط سيقفون دائماً إلى جانب الولايات المتحدة. ولعل اعتقاده القوي هو أن التحدي الفعلي للولايات المتحدة في الأعوام المقبلة سيكون صعود الصين. وبذلك، يجب أن تولى الأولوية إلى توكيد القوة الأميركية في منطقة الباسيفيكي أكثر منها في البحر الأبيض المتوسط وفي الخليج العربي.
وفي المقابل، يصر المتفائلون على عقد الأمل -رغم كل الدلائل المعاكسة- على أن أوباما سيفاجئ الشرق الأوسط والعالم ببعض القرارات الجسورة. وهم يعتقدون بأنه يستغل وقته قبل بسط يده. وهو يريد أولاً أن يشكل حكومته -بما في ذلك تسمية وزيري الدفاع والخارجية الجديدين. ومما لا شك فيه أنه سينعم النظر في نتائج الانتخابات الإسرائيلية في شهر كانون الثاني (يناير) المقبل ليقيس مدى خشونة ومخادعة المشكلة التي يواجهها هناك.
وسوف يُظهر الشهران المقبلان ما إذا كان أوباما يستحق أن يشغل مكانه في التاريخ، وأنه جدير بجائزة نوبل للسلام.
(ميدل إيست أونلاين) ترجمة: عبد الرحمن الحسيني- الغد الاردنية.
* كاتب بريطاني بارز في شؤون الشرق الأوسط.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: Courting Danger in the Middle East
abdrahaman.alhuseini@alghad.jo