أمام المشاكل المكثفة وعالية المستوى، وخاصة المشاكل سريعة التحرك، لا يوجد لدى جهاز صنع القرار للسياسة الخارجية والأمن القومي الأميركيين سوى مدى ضيق لتركيز الاهتمام. وفي الأثناء، تصبح المساحة المحدودة للسياسة مشكلة في حد ذاتها أكثر مما تكون عليه في العادة.
يخضع وزن الاعتبارات ذات الصلة إلى اختصارات. وثمة ميل للنظر إلى أصعب المشاكل بشكل منعزل. ويصبح مجرد مرور اليوم أو الأسبوع من دون جعل المشكلة أكثر صعوبة هدفاً قومياً بحكم الأمر الواقع.
حتى إيلاء اهتمام حذر بشكل معقول لكل مشكلة خطيرة تتم دراستها بشكل منفصل لا أكثر ولا أقل، ليس أمراً جيداً بما يكفي، إذ تحتاج المشاكل المختلفة إلى دراستها سوية. ولا يعني هذا نوع المقاربة الأثيرية الواسعة والمتماثلة بشكل كبير، أي التي تكون موضوعاً للكثير جداً من وضع الاستراتيجيات الخيالية والنظرية. بل إنها تعني وعياً متوسط المدى لكيفية الطريقة التي نتعامل بها مع مشكلة راهنة وجوهرية قد تؤثر على طبيعة مشكلة راهنة جوهرية أخرى.
في الوقت الحالي، تواجه الولايات المتحدة على وجه الخصوص ثلاث مشكلات كبيرة ومهمة وسريعة التحرك، والتي تستحق كل واحدة منها ما تحتله من مساحة الصفحة الأمامية. الاولى هي المفاوضات الخاصة بالتوصل إلى اتفاق، أو التمديد المرجح للمفاوضات حول برنامج إيران النووي مع وصول الموعد المستهدف للتوصل إلى اتفاقية في هذه الأيام.
الثانية هي الانعطافة السلبية الجديدة في العلاقات الأميركية مع روسيا، مع فرض عقوبات مضافة على الأخيرة –وهي حالة كانت لتشكل تحدياً كبيراً حتى من دون التعقيد الرئيسي الإضافي يوم الخميس قبل الماضي، والذي نجم عن إسقاط الطائرة المدنية الماليزية فوق الجزء الثائر من أوكرانيا. والثالثة هي تمدد هجوم إسرائيل على قطاع غزة، حيث كان القصف الجوي المتواصل أصلاً قد استكمل بهجوم بري.
تستطيع كل واحدة من الحالات الثلاث تعقيد الحالتين الأخريين. ولعل المرشح الأكثر وضوحاً للتعقيد يتعلق بكيفية تأثير التردي في العلاقات مع روسيا على المفاوضات مع إيران. وتجدر الإشارة إلى أن بعض المخاوف السابقة حول ما إذا كان الروس سيستمرون في التعاون فيما يتعلق بدورهم كعضو في التجمع التفاوضي المعروف باسم مجموعة 5+1، لن يتجسد.
كما يشير توصيف ألكسي أرباتوف الممتاز للمصالح الروسية في إيران، فإن روسيا لا تريد مشاهدة سلاح نووي إيراني، وهي تريد في ذلك الصدد رؤية اتفاقية تكون بمثابة أفضل ضمان ضد بروز هذا السلاح. لكن العقوبات المعادية للروس، وربما أي ضرر حاد آخر للعلاقات والذي قد ينجم عن حادث سقوط الطائرة الماليزية، ستغير من حالة موسكو وحساباتها على نحو كاف بحيث لا يعود من الممكن أخذ السلوك الروسي السابق كأمر مسلم به.
من المحتمل أن تتفاوت الردود الروسية من ممارسة مقاومة أكبر للموقف الذي قد تريد الولايات المتحدة المحافظة عليه فيما يتعلق بالمدى المسموح به لتخصيب اليورانيوم الإيراني، إلى الانفصال الأضخم، والذي قد يرقى إلى إبرام روسيا صفقة منفصلة مع إيران ولا يعني أي من هذا الحاجة إلى التخلي عن الأهداف الروسية للحصول على اتفاقية وعدم الحصول على سلاح نووي إيراني؛ ثمة اختلافات أصيلة في وجهات النظر حتى في داخل الولايات المتحدة حول ما هو الذي يؤسس لاتفاقية جيدة، وما أفضل طريقة لتحقيقها.
من جهة أخرى، من الممكن أن يؤثر الهجوم الإسرائيلي على غزة على المفاوضات الإيرانية، جزئياً لأن الطرف الذي يقوم بالهجوم هو المعارض الرئيسي لأي اتفاقية مع إيران أيضاً. وبشكل أكثر دقة، فإنه من الصعوبة بمكان تحديد الأثر مع ذلك. وفي ضوء المقايضات المستنبطة التي تراها حكومة نتنياهو غالباً في ميزان المراجعة لعلاقتها مع واشنطن، ربما سيوحي تبني الولايات المتحدة للهجوم بتفهم أنه كان يجب على حكومة إسرائيل أن يكون لديها موقف أقل تشدداً بكثير في جهودها الرامية إلى نسف أي اتفاق مع إيران.
لكن من الممكن لأثر ذلك أن يعمل بسهولة بالطريقة الأخرى. فالحصانة في الخروج بما يجري في غزة، قد يؤكد العناد السياسي في القدس والزخم السياسي في واشنطن ما يعني مزيداً من المحاولات الإسرائيلية لنسف صفقة إيران، لا أقل.
إن ما يكسبه نتنياهو من صرف لانتباه الرأي العام، والكسب السياسي الذي قد يجنيه من عملية غزة، قد يجعلان من الأسهل عليه تحييد الأصوات في إسرائيل، والتي تدرك أن اتفاقاً لتحديد البرنامج النووي الإيراني سيصب في صالح إسرائيل بدلاً من العلاقات المتوترة مع الإدارة في واشنطن.
ثمة عامل إضافي حاضر دائماً، هو الكيفية التي يستهلك بها دور الولايات المتحدة كمدافع رئيسي لإسرائيل وحامٍ لها ضد الانتقاد والإدانة الدوليين الرأسمال السياسي والدبلوماسي الأميركي. وكلما تعرض السلوك الإسرائيلي لمزيد من هذه الانتقادات، ازداد تآكل رأس المال السياسي والدبلوماسي الأميركي. ويعني ذلك أن القليل منه قد يتبقى لإنفاقه على أهداف أخرى، بما في ذلك المحافظة على ائتلاف متماسك وإبقاؤه كذلك وفق الشروط الأميركية، في التفاوض مع إيران.
كما أنه يعني أيضاً احتمال الاحتياج إلى رأسمال لرص الصفوف الأوروبية مع بعضها البعض بطريقة مشابهة لتلك التي تم انتهاجها في مواجهة روسيا حول أوكرانيا. ومن المرجح أن يصبح هذا العامل مهماً بازدياد، وإلى المدى الذي تتسبب فيه العملية الإسرائيلية في غزة بالمزيد من الاشمئزاز بين المواطنين في البلدان الأوروبية، والذين لم تقم حكوماتهم حتى الآن بإدانة العملية بوضوح.
على أنه ثمة بعض حالات التناظر بين هذه التحديات الثلاثة، على الرغم من أنها لا تعني بالضرورة اشتباك الحالات الثلاث في الحال. ويعد فرض عقوبات ضارة على روسيا بمثابة دعوة مفتوحة توجه إلى موسكو لتصبح أقل تعاوناً فيما يتصل بالعقوبات الضارة التي يتم فرضها ضد إيران.
بلغ إجمالي عدد القتلى في غزة بعد الطلقات الافتتاحية للهجوم البري الإسرائيلي يوم الخميس قبل الماضي نحو 246 شخصاً. وفي ضوء تاريخ الهجمات الإسرائيلية السابقة، وخاصة عملية الرصاص المصبوب في 2008-2009، فقد يستغرق الأمر يومين آخرين ليصل الرقم إلى 298، وهو عدد الركاب الذين قضوا جراء سقوط الطائرة الماليزية المنكوبة.
الغد الأردنية