بروكسل – من مطالعة العناوين الرئيسية، قد يخرج المرء بانطباع بأن الأربعمائة مليون مواطن المؤهلين للمشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة صوتوا بشكل جماعي ضد الاتحاد الأوروبي. صحيح أن الأحزاب المناهضة للمؤسسة، وأغلبها متشككة في أوروبا، فازت بنحو 20 % من الأصوات، ولكن اعتبار نتيجة الانتخابات رفضاً لأوروبا ببساطة ليس استنتاجاً دقيقياً (وليس عادلاً أيضاً).
بادئ ذي بدء، ورغم المبالغة في تقدير قيمة الحجة القائلة إن الاتحاد الأوروبي بات بعيداً للغاية عن مواطنيه، فإن استطلاعات الرأي أظهرت بشكل ثابت أن الثقة العامة في المؤسسات الأوروبية الكبرى تظل أعلى من الثقة في المؤسسات الوطنية. وفي مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، ما يزال البرلمان الأوروبي يتمتع بشعبية أكبر، في المتوسط، مقارنة بالبرلمانات الوطنية. ورغم أن فجوة الثقة ضاقت بعض الشيء في السنوات الأخيرة، فإنه حتى الركود المستمر، الذي تُلقى المسؤولية عنه غالباً على عاتق تدابير التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي والأزمة في منطقة اليورو، لم يتسبب في الحد من تميز البرلمان الأوروبي على البرلمانات الوطنية إلا بهامش ضئيل.
تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن نحو 40 % من السكان في مختلف أنحاء أوروبا ما يزالون يثقون في البرلمان الأوروبي، في حين يثق 25 % فقط في برلماناتهم الوطنية. وعلاوة على ذلك، يحظى البرلمان الأوروبي بقدر من الثقة أعلى كثيراً من ذلك الذي يحظى به الكونغرس الأميركي، الذي أصبحت شعبيته الآن أقل من 10 %. ونظراً لفقدان الثقة عموماً في المؤسسات البرلمانية على جانبي الأطلسي، فإن البرلمان الأوروبي يبدو في موقف جيد نسبياً.
علاوة على ذلك، ليست كل أحزاب الاحتجاج ترفض الاتحاد الأوروبي. ففي بلدان أوروبا المتضررة بالأزمة، صوت الشباب الذين كانوا الأكثر تضرراً بها، لصالح الأحزاب اليسارية “المناهضة للتقشف” بشكل جماعي، وكان هذا الاتجاه شديد الوضوح في اليونان. ولكن هذه الأحزاب لا ترفض الاتحاد الأوروبي، بل إنها على العكس من ذلك تريد المزيد من التضامن من جانب الاتحاد الأوروبي، وهو ما من شأنه أن يمكن حكوماتها من زيادة الإنفاق.
كان التصويت الاحتجاجي أشد بروزاً حيثما عجزت الحكومات عن تنفيذ الإصلاحات بشكل فعّال (كما هو الحال في اليونان على سبيل المثال)، على النقيض من بلدان مثل البرتغال وإسبانيا، التي تتعافى اقتصاداتها بدعم من الصادرات القوية. وفي إيطاليا، تمكنت حكومة رئيس الوزراء ماتيو رينزي الجديدة من وقف تيار التشكك في أوروبا من خلال إجراء إصلاحات ملموسة والامتناع عن إلقاء اللوم على الاتحاد الأوروبي على كل مشكلة تواجهها.
يبدو رفض الاتحاد الأوروبي أكثر جوهرية في بعض أجزاء شمال أوروبا، حيث يميل المواطنون الأكبر سناً إلى التصويت لصالح الأحزاب اليمينية الشعبوية. وفي المملكة المتحدة وفرنسا بشكل خاص، لعبت البطالة والافتقار إلى السيطرة على الحدود دوراً كبيراً في تأجيج حالة الاستياء من الاتحاد الأوروبي. وهو أمر مقلق بشكل خاص، لأن المشاكل القائمة في البلدين لا علاقة لها بسياسات الاتحاد الأوروبي إلا قليلا. فلا يمكننا أن نعزو الوعكة الاقتصادية في فرنسا إلى التقشف المفروض من بروكسل. أما المملكة المتحدة، فهي ليست حتى من البلدان الأعضاء في منطقة اليورو.
لقد شنت الأحزاب الشعبوية في البلدين حملات ناجحة ضد أمور غير ذات بال. وتشير كل الدراسات المتاحة إلى أن “سياحة الرفاهة” ظاهرة محدودة، وأن الهجرة تعمل على تعزيز النمو الاقتصادي. لكن هذه الحقائق تستبعد من الحسابات عندما تكون الأجور راكدة (كما هو الحال في المملكة المتحدة)، أو حين تستمر معدلات البطالة في الارتفاع (كما هو الحال في فرنسا). ويستطيع الشعبويون بسهولة إسقاط هذه المشاكل على “أوروبا” التي لا تمثل في هذه الحالة سوى الخوف من العالم الخارجي عموماً.
هكذا وقع الاتحاد الأوروبي بين مطرقة المطالبات بالمزيد من التضامن من قِبَل الشباب في البلدان الأعضاء الجنوبية، وبين سندان السخط من الحدود المفتوحة عند كبار السن في الشمال. وقد يكون من المغري محاولة استرضاء المجموعتين من خلال تخفيف تدابير التقشف وإلغاء منطقة شنجن الخالية من الحدود. لكنه من غير المرجح أن يقوم ذلك بتحويل الاتجاه السياسي نحو أوروبا مرة أخرى، وخاصة في بلدان مثل فرنسا والمملكة المتحدة.
تمتد الجذور الأكثر عمقاً لصعود المتشككين في أوروبا وغير ذلك من الأحزاب الاحتجاجية، إلى حالة السخط العامة إزاء حالة الاقتصاد والسياسات الوطنية المختلة. والواقع أن التعامل بشكل غير بارع مع قضية التقشف أو الحق الجوهري في حرية التنقل داخل الاتحاد الأوروبي لن يحدث فارقاً كبيراً. ذلك أن الإصلاح مطلوب في الداخل، في العواصم الوطنية.
في هذا السياق، فإن اختيار الرئيس التالي للمفوضية الأوروبية -الذي أصبح الآن موضع اهتمام كبيرا- ليس أكثر من مشهد جانبي. وأياً كان الشخص المختار، فإنه لن يتمكن من تحسين أداء الاتحاد الأوروبي إلا إذا تمكن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أولاً من بناء الإجماع على الإصلاح محلياً، وتمكن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون من إقناع الناخبين بأن المهاجرين (ثلثهم فقط يأتون من البلدان الأعضاء الأكثر فقراً في الاتحاد الأوروبي) مفيدون لاقتصاد المملكة المتحدة.
إن الاتحاد الأوروبي لا يملك ميزانية كبيرة، وهو يحدد على الأكثر الإطار العام للقواعد الاقتصادية والاجتماعية التي تتفاوت على نطاق واسع عبر قارة كبيرة ومتنوعة. ويتحدد النجاح والفشل على المستوى الوطني إلى حد كبير. هناك تكمن المشاكل، وهنا لا بد أن تُبذَل المساعي لحلها. ومن الواضح أن ما اتخذ هيئة التصويت المناهض للاتحاد الأوروبي هو في واقع الأمر احتجاج ضد مشاكل اقتصادية اجتماعية محلية.
الغد الأردنية