مدريد- في الفترة الأخيرة، وفيما كانت أنظار العالم مركزة على الأزمة في شبه جزيرة القرم والبحث عن طائرة الخطوط الماليزية المفقودة، مرت بهدوء في فيينا أحدث جولة من المفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1 (الولايات المتحدة والصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا). ورغم أنه تقرر استئناف المناقشات بعد ذلك، فإن نتيجة المحادثات بقيت غير مؤكدة.
لا يملك زعماء العالم ترف هذا التشتت في الانتباه. ويصدق هذا بشكل خاص على أوروبا التي كان نهجها الموحد في التعامل مع إيران عظيم القيمة حتى هذا الوقت. والواقع أن الصعوبات الشديدة التي فرضتها العقوبات الأوروبية كانت هي التي دفعت إيران إلى طاولة المفاوضات في نهاية المطاف، وكانت قوة الدبلوماسية الأوروبية الموحدة هي التي سهلت وضع “خطة العمل المشتركة” التي حددت شروط التوصل إلى اتفاق شامل طويل الأجل في غضون ستة أشهر.
لكن ما تحقق من تقدم ملموس حتى الآن، وبعد أن بلغت مدة الخطة منتصف الطريق، ما يزال ضئيلاً بعد أن عجزت المفاوضات الأخيرة عن إنتاج أي تقدم فيما يتصل بقضيتين أساسيتين: المستوى المقبول لتخصيب اليورانيوم في إيران؛ ومستقبل مفاعل الماء الثقيل في آراك. والواقع أن التناقض الحاد بين هذا الافتقار إلى الإنجاز وإعلان إيران مؤخراً عن التوصل إلى اتفاق نهائي بحلول شهر تموز (يوليو) يثير تساؤلات مهمة حول استراتيجية إيران وأهدافها، وهي تساؤلات ينبغي للمفاوضين أن ينظروا فيها بكل عناية من أجل تحديد أفضل نهج ممكن.
يشكل فهم خلفية هذه العملية مفتاح الطريق إلى النجاح. إن إيران هي أرض التناقضات. وفي زيارة أخيرة نظمها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بدا التعايش في ذلك البلد بين التقاليد الراسخة والتحول السريع واضحاً بشكل صارخ. وتجسد منطقة وسط مدينة طهران، التي تعج بالشباب والنساء اللاتي يرتدين الكعب العالي وأغطية الرأس الرمزية والمعاطف المفتوحة فوق السروايل، نزعة التعطش إلى التقدم. وقد ولد أكثر من 60 % من الإيرانيين بعد الثورة الإسلامية في العام 1979، وولد أكثر من 40 % منهم بعد الحرب بين إيران والعراق في ثمانينيات القرن العشرين. وهكذا، تمثل الثورة في نظرهم جزءا من التاريخ وليس المصدر الرئيسي الذي يستمدون منه قيمهم الشخصية.
كان من الواضح هناك أيضاً حجم الخسارة التي جلبتها سنوات من العقوبات الاقتصادية القاسية على الحياة والناس. ورغم الجهود الحثيثة التي يبذلها المسؤولون الإيرانيون للتهوين من شأن التأثير الذي تخلفه العقوبات، فإنه يبقى من الصعب عليهم أن يبرروا معدل التضخم الذي يتجاوز 30 %، ومعدل النمو المتوقع للناتج المحلي الإجمالي الذي لا يتجاوز 1 % هذا العام.
في واقع الأمر، تشكل هذه التركيبة من السكان الشباب والاقتصاد المتداعي مزيجاً قابلاً للاشتعال في أي وقت، والذي يشكل تهديداً خطيراً لقدرة النظام الحالي على البقاء، وهي حقيقة يدركها النظام. وفي هذا المشهد، تُصبِح ضرورة التوصل إلى اتفاق مع المجتمع الدولي، والذي يكون من شأنه أن يعزز الازدهار أكبر من أي وقت مضى بالنسبة لزعماء إيران.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون أسلوب إيران التفاوضي، مثله مثل حال عاصمتها، مجهداً ومرتبكاً. فبعد وقت قصير فقط من التوضيح المفصل لتحريم القرآن للأسلحة النووية، قد يعلن أحد المحاورين أن حصانة منشأة فوردو النووية تحت الأرض ضد الضربات الجوية لا بد أن تكون شرطاً محورياً لأي اتفاق.
الواقع أن إيران لا تعتزم التخلي عن قدرتها على تحقيق الاختراق النووي. كما أن المفاوضات لا تهدف إلى استئصال هذه القدرة، بل إطالة أمد التنفيذ -أو على وجه التحديد، الحد من مستويات تخصيب اليورانيوم بحث لا تتجاوز 3.5 %، وإنشاء نظام تفتيش قوي، والتوصل إلى اتفاق بشأن منشأة آراك النووية. لكن هذا قد لا يحدث. فحتى وقتنا هذا، لم يبرهن المسؤولون الإيرانيون على التزامهم بقبول ضوابط صارمة وقابلة للتحقق.
علاوة على ذلك، تمكنت إيران من الفصل بين المفاوضات النووية والقضايا المتصلة الأوسع نطاقاً، مثل برنامج الصواريخ الباليستية، ودعم إيران لجماعات مثل حزب الله، وسجلها المحلي فيما يتصل بحقوق الإنسان. ومع كراهية الولايات المتحدة لوضع أي معوقات أمام هذا الخليط، فإنه لا يوجد أي احتمال لطرح مثل هذه القضايا للمناقشة. وفي هذا السياق، كان اجتماع كاثرين أشتون، الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي، مع المعارضين خلال رحلتها الأخيرة إلى طهران مجرد لفتة رمزية.
سيكون من شأن كل هذا أن يتيح لإيران الفسحة التي تحتاج إليها من الوقت للمراهنة استراتيجياً على قيام الصراع السوري بخلق أعظم من الاحتكاك بين الغرب وخصم إيران الإقليمي اللدود، المملكة العربية السعودية. وبالنسبة لإيران، الداعمة القوية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، يشكل تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية المفتاح إلى تحويل ميزان القوى الإقليمي -خاصة إذا كان ذلك مصحوباً بتخفيف العقوبات الاقتصادية الغربية.
إلى حد ما، يتعزز هذا الأمل بنظرة إيران إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما باعتباره شريكاً متحمساً في المحادثات النووية. فعلى أي حال، سيكون التوصل إلى اتفاق طويل الأجل مع إيران هو إنجاز السياسة الخارجية الوحيد بالنسبة لأوباما، والذي سيقدم دعماً لجهوده الرامية إلى فك ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط.
لكن إيران تدرك أيضاً أن الوقت يمضي. فرئاسة أوباما تقترب من نهايتها، والجمهوريون يستعدون لاستعادة السيطرة على مجلس الشيوخ في انتخابات التجديد النصفي في تشرين الثاني (نوفمبر)، والديمقراطيون يزدادون تحفظاً باطراد على مسألة اعتبارهم “ناعمين في التعامل مع إيران”. ونتيجة لذلك، يبدو الكونغرس الأميركي وأنه يصبح أكثر عدائية تجاه الصفقة مع إيران؛ وكلما استغرق إبرام الاتفاق النهائي وقتاً أطول، زادت احتمالات عرقلة الكونغرس له.
في هذا السياق، ينبغي لأوروبا أن تلعب دوراً أساسياً. فرغم ما اشتهرت به سياسة أوروبا الخارجية من “ليونة” يستمر في تشكيل تصورات الإيرانيين، فإن دور الاتحاد الأوروبي في إرغام إيران على التفاوض يظل هو الداعم الرئيسي للمحادثات الحالية. وعلى نحو مماثل، كان إصرار فرنسا على فرض ضوابط أكثر صرامة هو الذي منع التوصل إلى اتفاق في جنيف في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
قبل عشر سنوات، خيبت أوروبا رجاء إيران بانسحابها من المفاوضات تحت ضغط من الولايات المتحدة -وهو التحرك الذي رأى البعض أنه ساعد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد على الوصول إلى السلطة. واليوم، سوف تكون أوروبا بالغة الأهمية في دفع العملية التفاوضية إلى الأمام، وخاصة إذا رفض الكونغرس الأميركي أي اتفاق معقول.
الواقع أن النهج الموحد الذي استعانت به أوروبا في التعامل مع إيران مكنها من فرض تأثير أعظم مما قد تكون خلفته على أي قضية تتصل بالسياسة الخارجية. وينبغي لنا أن ننظر إلى هذا باعتباره نموذجاً للمستقبل ودرساً للحاضر. من خلال الحفاظ على وحدة الهدف والحفاظ على الضغط وزخم التفاوض الذي يتولد عنه، تبرهن أوروبا لإيران والولايات المتحدة ولنفسها أيضاً أنها تملك كل ما يلزم لكي تصبح لاعباً عالمياً أساسياً.
آنا بلاشيو
*وزيرة خارجية إسبانية سابقة، ونائبة سابقة لرئيس البنك الدولي، وهي عضو في المجلس الإسباني للدولة ومحاضرة زائرة في جامعة جورجتاون.
*خاص بـ “الغد”، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”.