الحصار الذي فرض على القطاع من قبل دولة الاحتلال، والتناغم والاستجابة المصرية في ظل حكم حسني مبارك، وإسهامه في إغلاق معبر رفح’تنفيذا لاتفاق المعابر كما كانت الحجة’، ساهم إلى حد كبير في الحد من طموحات حركة حماس في تأخير رغبتها الجامحة في إعلان التحرير.
أما وقد نجحت الحركة الأم في السيطرة على الحكم في الجارة الكبرى، فقد تجددت أحلام وآمال حماس في إعلان الاستقلال والتحرير للإمارة الإسلامية المنشودة، حيث تعتقد كما وتروج، بأن القطاع سيتحول إلى إمارة للسمن والعسل – كما روج الراحل عرفات لسنغافورة الشرق الأوسط بعد دخوله مناطق السلطة- وسيتم حكم القطاع بحكم الله من خلال ورثته هناك والذين يتجسدون في أبناء حركة حماس تحديدا، علما بان لا سمنا ولا عسلا يمكن لكائن من كان أن يوفره لدولة حماس ‘الغزية’، في ظل أوضاع لا يحسد عليها القطاع وأهله الذين عانوا ما عانوه في ظل وجود احتلال عنصري بغيض وكذلك في ظل حكم لاهوتي يتمثل في حركة حماس.
مفهوم التحرير بحسب حماس وبعض من كتب مروجا أو معتقدا، في فهم هو بالحقيقة مغلوط، ومعاكس تماما لنوايا الحركة التي ‘تلعب’ على ذلك بمقاصد ‘مشبوهة’، حيث هي تدرك تماما أن فتح معبر رفح -وهو ما أثار كل هذه الزوبعة في موضوع التحرير-، لن يكون العصا السحرية في إعلان التحرير، حيث إن بإمكان مصر بقيادتها الحالية، أن لا تعلن بشكل رسمي عن فتح المعبر، وأن تسمح بإدخال ما يمكن إدخاله دون معوقات أو عقبات.
فتح المعبر في الحقيقة، هو مطلب كل الإنسانيين في العالم، وإلا لما رأينا قوافل المساعدات وسفن التضامن تتجه إلى القطاع برغم ما يترتب على ذلك من مخاطر، فتح معبر رفح لا يمكن لأحد يتمتع بالحد الأدنى من الحس أو الشعور الإنساني، إلا أن يكون معه، خاصة وان لا مبرر على الإطلاق لإغلاقه، والوضع الطبيعي ان يكون مفتوحا، لان في إغلاقه – لو ان الزمن غير الزمن- جريمة ضد الإنسانية تتمثل في عقاب جماعي لشعب بأكمله، ولتم جر من تسبب أو كان وراءه إلى المحاكم الدولية.
الموضوع ليس في فتح المعبر أو إغلاقه، بقدر ما هو مفهوم آخر طالما سعت إليه حركة حماس، والذي بدا واضحا بدون لبس أو التباس، حيث سعت الحركة وحتى قبل ان تستفرد بحكم القطاع، إلى الإعلان عن رغبات جامحة لدى القائمين عليها في الحكم والهيمنة على فلسطين، وإقصاء كل من هو غير حمساوي، حتى ولو كان إسلاميا، ليس في غزة فقط، وإنما ببسط سيطرة نظام إخواني وليس ‘إسلامي’ متشدد يستقي فهمه للحكم من نظريات وهابية إقصائية تكفيرية لا تعترف بالآخر.
إعلان التحرير الذي طالب به بعض قيادات حماس، برغم نفي وربما استنكار البعض من قياداتها له – بشكل علني على الأقل-، لم يك سوى بالون اختبار آخر من قبل الحركة، وهي بهذا تفعل ما كان يفعله الراحل عرفات، عندما يريد الخوض في موقف معين، فإذا ما وجد ردود أفعال سلبية نفى علمه بالتصريح أو الموقف وأنكره واستنكره، وإذا ما وجد ردود فعل ايجابية أو لا ردود سلبية، تبناه واقره وعمل به.
إعلان التحرير هذا على أية حال، مستنكر تماما، لأنه يرمي إلى اختزال الوطن الفلسطيني في قطاع غزة، هذا القطاع الذي ‘ينحشر’ بين جنباته حوالي مليوني إنسان، ويعتبر المنطقة الأكثر اكتظاظا في العالم، وينظر إليه على انه ليس سوى مجرد سجن كبير، يعاني فيه الناس من شتى أنواع الظلم والفقر والهوان.
إن مجرد التفكير في إعلان القطاع إمارة إسلامية محررة، إنما هو قفز عن المسلمات والثوابت الفلسطينية، فلطالما رغبت دولة الكيان أن تتخلص من مسؤولياتها كدولة احتلال، ولسوف تكون خطوة الإعلان عن التحرير هذه، هي القشة التي تنقذ رقبة دولة الكيان من كل مسؤولياتها أمام العالم، وعند ذاك لا حملات للتضامن ولا وفود ولا من يحزنون تتوافد على القطاع المنكوب، وسيتعامل العالم مع القطاع على انه دولة الفلسطينيين التي أرادوها منذ عقود، وهي ستكون الخطوة التي يتطلع إليها حكام امة العربان الذين أضاعوا فلسطين، لا بل سلموها للعصابات الصهيونية، من اجل نفض يدهم من هذه القضية التي هي مسؤوليتهم طال الزمن أو قصر.
حركة حماس برغم ما يقال عن نفيها لإعلان التحرير، إنما تحاول استثمار ما تحقق من نجاح لحركة الإخوان المسلمين في مصر، وتحتفي بذاك النجاح على انه نصرها، ومن أن مصر تحولت إلى تابع لقطاع غزة وفرع حركة الإخوان فيها وليس العكس.
احتفالات حماس بفوز الإخوان بمصر، ومن أن التحرير بات اقرب إليها من حبل الوريد، إنما يذكرنا باحتفالات النصر التي حدثت بعيد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، وكذلك على إثر توقيع اتفاقية المعابر حين ‘دق’ قادة فلسطينيون على صدورهم من أن المعبر أصبح معبرا فلسطينيا خالصا، وكنا قد اشرنا في حينه إلى ان من السابق لأوانه ‘دق’ الصدور والاحتفال بالنصر الموهوم، وقد ثبت بالملموس ان ما يقال لا يتوافق مع ما هو موقع في الاتفاقات مع دولة الكيان.
ألإخوة في حركة حماس، يسيرون بخطى حثيثة من اجل صناعة كيان مستقل، ولن يكون مستغربا أن يخرج علينا من يخرج، بفتوى معدة تماما لشرعنة وتبرير الإعلان، وربما يتم إيراد أمثلة تاريخية يتم اصطناعها استنادا إلى تجارب التاريخ الإسلامي، وهنالك من ‘عامة’ الناس من سيصدق مثل هذه الفتاوى وسيتبناها ويدافع عنها.
المطلوب من السادة في حركة حماس، خاصة أولئك الذين أغواهم النصر ‘المؤزر’ للإخوان في مصر، والذين ‘أسكرهم’ فوزهم في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، والشعور الموهوم باستقلال القطاع ، والامتيازات التي حصلوا عليها من خلال حالة الانقسام، وما حققه البعض من تجارة الأنفاق – حيث دفن العشرات من أبناء القطاع أحياءً فيها- ان يتوقفوا عن الترويج لتحرير القطاع، لان في ذلك مقتلا للقضية الفلسطينية.
أخيرا، لا بد من القول انه إذا كانت المسألة الفلسطينية تمر بأحد اخطر الأزمات التي حدثت منذ عقود بسبب الانقسام، فان الخروج من ذلك لا يكون من خلال التلويح بإعلان القطاع منطقة محررة، في محاولة للضغط على طرف الانقسام الثاني، لتحسين شروط الاتفاق بينهما وتقاسم الوطن ومنظمة التحرير، لان في ذلك ليس فقط محاولة للهروب من المصالحة، لا بل محاولة للنيل من الحق الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية على جناحي الوطن، وهي محاولة بائسة سوف تقود إلى نتائج أكثر خطورة وكارثية على القضية الفلسطينية من الانقسام الذي لا زال يشطر الوطن بين ضفة وقطاع وبين فتح وحماس.