إعلان الأخضر الابراهيمي، مبعوث الأمم المتحدة الخاص بسورية، أنه سيستقيل من منصبه في نهاية هذا الشهر، أثار عدداً من الأسئلة المهمة. وتأتي مغادرة الابراهيمي لمنصبه إلى حد بعيد كإحدى تداعيات قرار الرئيس بشار الأسد خوض انتخابات الرئاسة السورية مرة أخرى في حزيران (يونيو) المقبل، وهو ما يقوض الجهود الرامية للتفاوض على مرحلة انتقالية في سورية. ومن شأن ذلك أن يجعل دور الإبراهيمي بلا معنى.
ولكن، وبالإضافة إلى ما تعنيه استقالته فيما يتعلق بتسوية متفاوض عليها في سورية، فإن قرار الأسد السعي إلى إعادة انتخابه يشكل سؤالاً أكثر عمقاً. في حال تحقق الاحتمال غير المرجح إلى حد كبير، المتمثل في تمكن الرئيس الأسد من إلحاق الهزيمة بالانتفاضة ضد حكمه، فعلى أي أسس سيقوم الأسد ببناء سورية ما بعد الحرب؟
هذا السؤال يكون بالكاد أكاديمياً، كما كان حافظ الأسد قد فهم الأمر بشكل جيد جداً. لقد عرف أن نظاماً تقوده أقلية يحتاج إلى غطاء أيديولوجي لاستدامة هيمنته. واستخدم الرئيس السوري الراحل القومية العربية، متخفية في رداء اشتراكية البعث للقيام بهذا الأمر. ومع حلول الوقت الذي شهد وفاته في العام 2000، كان حزب البعث قد فقد كل قوته الإيديولوجية، لكنه ظل يشل شيئاً محسوساً لمجموعة مصلحة كانت قد استفادت من سياسات النظام الاجتماعية والاقتصادية.
من ناحيته، قام بشار بتدمير ما كان والده قد أمضى عقوداً في بنائه، وهو يعد الآن بالعودة من أجل المزيد. ولكن، تحت أي عنوان ستوضع رئاسة أسدية جديدة؟ وإذا كان الأسد يتصور أنه سيرسخ شرعيته في الإدعاء بأنه قاد حرباً ناجحة ضد الإرهاب، فإنه إنما بذلك يشرب من نفس صنبور دعاية نظامه.
سوف يرحب العديد من السوريين بوضع نهاية للصراع الذي تسبب بالدمار لبلدهم. لكنه عندما يكون للواقعية وقت لتأتي إلى السطح، وعندما ينظر الناس وراءاً إلى السنوات الثلاث الماضية من المجازر ليقرروا الجهة المسؤولة عنها، فإن الرئيس السوري لن يكون بعيداً. وسوف يحتاج إلى ما هو أكثر من الوحشية والإدعاء الزائف بأن ما كان يحاربه في العام 2011 إنما كان “مجموعات إرهابية مسلحة” من أجل أن يقنع السوريين بأن قيادته جديرة وصالحة.
الواقع يقول أن معيار بشار الوحيد للبقاء رئيساً يكمن في معادلة القوة: ما لم يهزمه أعداؤه فإنه سيبقى في المنصب. وذلك قد يكون مقبولاً في سياق الحرب. لكن الرئيس السوري سيجد أنه من المستحيل تقريباً حكم سورية ما بعد الحرب على أساس هذا المبدأ.
إذا كان هدفه هو العودة للاعتماد على الأجهزة الأمنية للمحافظة على نظامه، كما كان قد فعل في العام 2011، فلن تخرج سورية أبداً من هذا الصراع، ومن الممكن أن يصبح بشار نفسه قابل للتخلص منه.
بافتراض أن النظام استطاع أن يوطد نفسه في سورية في فترة ما بعد الحرب، فعندئذٍ لن تكون الدافع للإبقاء على بشار على رأس السلطة هو نفسه. وقد ينجم بشار أقوى من الدوامة، لأنه صمد في البقاء في وجه ثورة عارمة، لكن الدافع للتخلص ربما يكون قوياً بنفس المقدار. وحتى الطائفة العلوية يمكن أن ترى فائدة في إزاحة الرجل الذي يشخص خطيئتها الأصلية.
حتى هذه اللحظة، ما يزال احتمال انتصار الأسد في الحرب السورية يبدو سخيفاً. فالنظام ببساطة لا يتوافر على القوى البشرية اللازمة لاستعادة السيطرة على سورية، كما أن استراتيجيته اليوم ترتكز إلى الاستدامة السياسية. لكن إذا استطاع النظام ببطء توسيع المناطق الخاضعة لسيطرته -وهذه “إذا” كبيرة- إلى النقطة التي يستطيع عندها التأمل واقعياً في الانتصار، فإن هذا “الانتصار” سيكون قد تحقق بكلفة عالية جداً، من خلال ذبح عشرات الآلاف من مواطنيه. وفي الأثناء، يبدو بشار غير مكترث بهذا وثمة أمثلة أخرى لتشجيعه في هذا الموقف. فقد نجا النظام الجزائري ذو القيادة العسكرية في حرب أهلية خلال التسعينيات، والتي لا يمكن إنكار مدى ضراوتها ووحشيتها. ومع ذلك أعيد قبل أسابيع قليلة انتخاب مرشح الرئاسة المتهالك، عبد العزيز بوتفليقة، لولاية رابعة.
يجوز أن ذلك حدث لأن القيادة الجزائرية لم تكن خاضعة لسيطرة أقلية دينية، ولم يكن البلد ميدان لعب إقليمي بالطريقة التي تجسدها سورية. ويجب على تلك الدول التي عززت بشار: إيران وروسيا فوق كل شيء، أن تدرك أن إبقاء الرئيس السوري في السلطة إنما يشكل الرحلة الأولى فقط. وما لم يثبت نظامه على أساسات أكثر رسوخاً، فربما تكون جهوده قد ذهبت أدراج الرياح. وإذن، ما عساها أن تكون هذه الأسس. إن فكرة البعث قد ماتت. وأصبح مخطط سورية الكبرى ضرباً من المحال بعدما حيد بشار جزءاً كبيراً من مواطنيه، وما تبقى هو نظام يتمسك بالنزعة الطائفية ويلقى الدعم مبدئياً من الأقليات في سورية. والحقيقة أن نظام الأسد لا يتوافر على شيء يؤمّن به حكمه غير الترهيب.
يذكر أنه حتى بعد حملة ضخمة من التطهير، كان لدى جوزيف ستالين أيديولوجية للتمسك بالنظام السوفياتي الأوتوقراطي. وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية عاد إلى القومية الروسية لتجييش مجتمعه ضد ألمانيا النازية. لكن بشار لا يملك هذه الأدوات في يديه وتحت تصرفه. وكل ما لديه هو البندقية، وحسب.
يقدم نظام الأسد الخراب والدمار للمجتمع السوري. وقد يستديم للحظة، لكن البوابات التي سعى حافظ الأسد إلى المحافظة عليها موصدة فتحت كلها، مميطة اللثام عن نفس القوى التي كان الرئيس الراحل حذراً وحريصاً على إبقائها تحت سطوته. ولن يكون بشار قادراً على إقفالها مرة أخرى.
الغد الأردنية