صحيح أن الإدارة الأمريكية كانت من أوائل الدول التي اعترفت بدولة الاحتلال اعترافا واقعيا وقانونيا عام 1948، وصحيح أيضا أن الإدارة الأمريكية لم تسع لحل دائم للقضية الفلسطينية وإنما اكتفت بإدارة الصراع عبر خلقها لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لسبعة عقود ونيف. لكنها لم تقم بخطوات سلبية وخطيرة في صدد الحل المشوه، إلا حديثا، واسترضاء للصوت اليهودي الأمريكي وإيباك والإدارة الإسرائيلية طمعا في إعادة الرئيس الأمريكي لجولة جديدة.
فمنذ خطواته الأولى في الرئاسة، قام الرئيس دونالد ترامب والإدارة الأمريكية بخطوة وقحة غير قانونية – لم تقم بها الإدارات الأمريكية السابقة جميعا – بتنفيذ قانون االكونجرس الأمريكي في عام 1995، وقرر نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس حيث اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وبالتالي أزال عقبة مزعومة من طريق الحل السياسي كما رسمه مستشاروه الصهاينة.
وما لبث أن هاجم ترمب ومساعدوه مثل جرينبلات وكوشنير، وكالة الغوث الدولية لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ودورها في المنطقة، فخفض مساعدات الولايات المتحدة لها، وفي سنة تالية قطعها كليا، وأراد إلغاء جسم الوكالة الأممي من الوجود لكنه لم يفلح لأن إنشاءها ليس قرارا أمريكيا خالصا وإن أثر على موازنتها بشكل جوهري.
وما أن استتب له أمر السياسة الخارجية حتى شنّ هجوما صارخا، وما زال، على الإتفاقية الإيرانية الأمريكية الأوروبية. بل بادر بتصريحات لفظية بتهديد إيران رافقها إرسال قوة رمزية للخليج لتأييد زعمه بأنه حام لحكام الخليج والسعودية، ولمزيد من الإستنزاف المالي تحت الذريعة الأمنية.
وفي ذات الإطار الإنتخابي القادم، اعترف بشكل غير قانوني بضم مرتفعات الجولان المحتلة عام 1967 للسيادة الإسرائيلية، رغم أن الضم باطل ولاغ في القانون الدولي الذي قذفت به الإدارة الأمريكية إلى سلال القمامة. وكافأ الإسرائيليون الأمريكيين بخطوة سخيفة مضحكة بتسمية مستوطنة مهجورة في مرتفعات الجولان المحتلة على اسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر حفل بسيط وعقد جلسة لمجلس الوزراء الإسرائيلي هناك.
وحتى تكتمل سيرة الخدمة الترامبية لبنيامين نتنياهو احتج الأول على فشل الثاني في تشكيل حكومة إسرائيلية، وأنبّ الإسرائيليين، على قرارهم بعدم السماح بتشكيل الوزارة الإسرائيلية، واعتبر بنيامين نتنياهو قائدا عظيما لايجارى ولا يفرط فيه، في خطوة لاستجداء الصوت الإنتخابي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن أجل أن تبدو الولايات المتحدة الأمريكية موضوعية ومنصفة ومحايدة في وضع حل للقضية الفلسطينية، تراءى للفريق الأمريكي أن يقسم الحل المطروح إلى جزئين. واحد اقتصادي وآخر سياسي أمني. ورؤي تقديم بيان الحل الإقتصادي على بيان الحل السياسي الأمني. ولم ينس الفريق الأمريكي بان يضع اسما براقا مخادعا لهذا الحل حيث أطلقوا عليه صفقة القرن . وبقيت مظاهر التأجيل تلاحق الخطة السياسية التي أعلن عن تأجيلها مرارا وتكرارا تحت ذرائع وحجج واهية.
فأما الحل السياسي فلم ينشر ولم يعلن، وبقي مجالا للتكهنات السخيفة من قبل المبتدئين في علم السياسة. وإمعانا في طابع الإثارة والغموض الذي أبدعت فيه ستوديوهات هوليود، تم تأجيل إعلان تفاصيل هذا الحل السياسي المزعوم إلى ما بعد الإنتخابات الإسرائيلية في شهر أيلول القادم. وليس بعيدا أن يتم التأجيل وقتذاك باسم بداية الأعياد اليهودية أو بحجة بداية سنة الإنتخابات الأمريكية وكأنك يا أبو زيد لا رحت ولا غزيت. فأربع سنوات عقيمة مرت على مبادرة عقيمة تم فيها الضحك على عقول السياسيين وتمت المأساة الملهاة بسرد وسيناريو أمريكيين، وإخراج هوليودي، ومشاهدة عربية.
الغريب، أن الأمريكيين وإدارتهم استقت واستوحت من الأدبيات الشائعة عن العرب، فكرة ورشة البحرين الإقتصادية المتوقع انعقادها في آخرهذا الشهر. فالعرب كما تصورهم الأدبيات الغربية أناس همج يجرون وراء المال والنساء، عنيفون، لذا سيتم جمعهم في البحرين لجمع أموال للشعب العربي الفلسطيني الملهوف على هذا المال كما يتخيلونه. وحتى يكون المال طاهرا عربيا إسلاميا بدون نجاسة أو قذارة أو تطبيعا، استبعدت إسرائيل من حضور الإجتماع وكأن الأمريكيين يتعاملون مع أغرار جهلة. وأسموها ” ورشة ” تبسيطا لمفهومها وتشجيعا لحضورها وكأنها موضوع بسيط عادي، رغم الجهود المضنية التي قام بها جرينبلات وكوشنير لحث الدول العربية لحضورها بل استعمال سلاح التهديد لحضورها.
وزاد الطين بلّة تلك الدعوات الخطيرة التي بدأها السفير الأمريكي المستوطن بان أجاز لإسرائيل ضم مناطق من الضفة الغربية التي تعرف بمنطقة سي أي جيم وفق اتفاقية أوسلو، والتي تقدر بأكثر من نصف الضفة الغربية، وسكانها قليلون نسبيا . وقطعا هذه الدعوة كان قد بدأها الوزيران الإسرائيليان بنت وشاكيد من الحزب الديني الوطني الإسرائيلي.
وكرر هذه الدعوات بلغة ممجوجة، المبعوث الأمريكي اليهودي الصهيوني جرينبلات، حينما أعلن علنا بأنه لن يعترض على ضم الإدارة الإسرائيلية هذه المناطق بل سيعتبره مشروعا.
أفبعد كل هذه الخطوات التي فضحت وكشفت ما يسمى يفضيحة القرن يبقى ما يستحق المعرفة، ام نحن شعب تهوى التفاصيل والتكتيكات ونهرب من الإستراتيجيات.وقد قيل أنها تحتوي مئتي صفحة وأموالا بالمليارات وأدوارا لكل الفرقاء. حينما تستبعد القدس من عناصر الحل، لا يهم أن تكون العاصمة في ابو ديس أو العيزرية أو رام الله أو نابلس فكلها أفكار سيئة، لأن القدس هي المكان الوحيد والأوحد للعاصمة الفلسطينية. حينما تسقط الإدارة الأمريكية حق العودة فلا يهم بعد ذلك أن تستوعبهم الإدارة الأمريكية أو لبنان أو الأردن أو البرازيل لأن هذا الحق الذي ناضل من أجله الفلسطينيين غدا سرابا ووهما. حينما يسقط هذان الحقان المركزيان، لتذهب كل مليارات العالم للجحيم فلا يتبقى شيء من القضية الفلسطينية للتناقش فيه.
وها نحن نحذر، الإدارة الأمريكية التي تقوم سياستها على الفلسفة البراغماتية العملية الواقعية، والتي لاتأخذ بحقوق الشعوب الأصلية، والتي أدارت النزاع العربي الإسرائيلي ولم تلجأ لحله طيلة تاريخها المعاصر، قررت حله في عهد دونالد ترامب على الطريقة الهوليودية الأمريكية. فها هي الإدارة الأمريكية تخطو الخطوات الأولى لإرساء هذا الحل، في الفترة الرئاسية الأمريكية الأولى. وستكمله في الفترة الرئاسية الثانية بعد أن أعوز الوقت الرئاسة الأمريكية وبعد أن تكون قد مهدت له عبر ورشة البحرين .
من هنا نفهم ويتضح إصرار دونالد ترامب على فترة رئاسية ثانية وإعلانه عن ترشيح نفسه مبكرا، وكيله المديح غير المبررلبنيامين نتنياهو بغير حدود، لتحقيق خطته التصفوية للقضية الفلسطينية بعد أن مهد لها في فترته الرئاسية الأولى. بل إن خطابه الإنتخابي الأول، كان مخصصا للتذكير بخطواته بنقل السفارة الأمريكية للقدس والمستوطنات والجولان والأونروا. وكأن العالم خلا من أي حدث جسيم سوى هذه الأحداث مستجديا الصوت الإنتخابي اليهودي.
في ظل كل ذلك يبدو الوضع خطيرا، لأن ردة فعلنا كالعادة، ستكون مزيدا من الصراخ والنقد واللعن والتحسب والجعجعة والمظاهرات والندوات والخطابات والبيانات، ولن تتجاوز كل ذلك. صحيح أننا ضعفاء والعرب أضعف، والمسلمون في واد آخر، حتى دول عدم الإنحياز نسيت وظيفتها، والأوروبيون يدورون في الفلك الأمريكي ولا يقوون على شيء. لكن يجب أن نفكر ولو بخطوات صغيرة عملية وأن نحشد الداعمين، ليستدعي ذلك من ترامب وفرقته إعادة التفكير بسياسته وقراراته. فلماذا لا يقوم العرب باستعمال حقهم الإنتخابي عبر تسجيل اأنفسهم في قائمة المصوتين الأمريكيين والترشيح على صعيد الولايات كلها. لماذا لا يتم الإتصال بالشخصيات الأمريكية المتوازنة في الشأن الأمريكي. لماذا لا يتم إسقاط الرئيس الأمريكي أو العمل على عزله كما حصل مع نيكسون.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هو أخطر الرؤساء ألأمريكيين على القضية الفلسطينية، لأنه كما يتضح، إذا قال فعل، وكل أفعاله الآن ترجمة لتصريحاته الإنتخابية السابقة، وهو في تكامل شديد مع الحكم الإسرائيلي اليميني الليكودي فالأعمى إذا قاد رجلا أعمى آخر سقط كلاهما في الحفرة. كفانا تشكيكا في موقفه فقد غدت واضحة وغدا الأمر يحتاج وحدة وانتخابات وسيادة قانون ودولة قانونية وتداول للسلطة على امل الوقوف في وجه ريح صرصر عاتية!!!
إدارة أمريكية قائمة عل الجشع والضم والتأجيل!!!بقلم:المحامي إبراهيم شعبان
