الكاتب: تحسين يقين /جيل شاب قادم من الناصرة، عشرينيون/ات، ممتلئون بالشغف الإنساني وعالم المسرح، اتجهوا للتعبير الإبداعي المسرحي، غير مقيدين أنفسهم بمحاكاة آخرين، فجاءت المسرحية لتمنحنا فرصة التفكير بهذا الأسلوب المعاصر، في شيء من التجريب، وشيء مهم من عملية الوقوف على الخشبة، فترانا نتأمل المضمون وما استلزمه من شكل تعبيري.
أمران مهمان معا: الأول الموقف النقدي في المضمون لهندسة العقول. والثاني حركة الجسد الخاصة، وهما معا مرتبطان، بالسياق النفسي الفكري، من حيث جعل النزق والسخرية وإرادة التغيير رافعتين للمضمون؛ فما الذي يمكن قراءته من شعور لدى الشباب الناقدين الناقمين على ما هو سائد من تغول على الإنسانية؟
مضمون المسرحية في البحث عن تلبية حاجات البشر واحترام إرادتهم، أمام القوى الحاكمة والناظمة، شجعت المخرج على اختيار شكل المناظرة الانتخابية، بين شخصين، ممن يرشحان أنفسهما كأفضل ما يدير الحكم.
حملت المسرحية اسم “إدارة العالم”، أي راحت تنشد المطلق من المكان، كل المكان، فكانت المناظرة الانتخابية مطلقة المكان، غير مخصصة، كون الهدف إنسانيا عاما، وإن حمل بالطبع إمكانية الوجود في بلاد معينة.
وكونها كذلك، فقد اختارت الرؤية الإخراجية للمخرج الشاب (واكاتب النص) كارلوس غرزوزي شكل الوقوف المباشر أمام الجمهور، كناخبين طبعا، (في الوعي واللاوعي)، مرشحان، ومديرة المناظرة، وهنا يمكن تفهم شكل الوقوف مقابل الناخبين، والذي لم يكن رتيبا مملا، بل كان متحركا، ما بين الوقوف والاشتباك بالصوت والاقتراب والابتعاد، على موسيقى حية، تواجد عازفوها في ركن المسرح, ولعل تفاصيل حركة الجسد خاصة الساخرة أو الكاريكاتورية، منحت حيوية شكلية، عبرت عن فهم سيكولوجية المتفرجين/الناخبين، بما فيها بالطبع حركة مديرة المناظرة في عمق المسرح، والمحاكية لما يسرد عنه أحدهما، والمتوترة، والتي يزداد توترها وصولا الى مفاجأة صادمة في النهاية. وهنا أبدعت مصممة الحركة سماء واكيم.
يمضي أو مشهد/المناظرة الأولى بين مرشحين، ويأتي المشهد الثاني/ المناظرة الثانية بين مرشح ومرشحة (جين زوجة فرانسوا التي انقلبت عليه)، يتكرر المرشح الذكر، الذي يبدو معتادا بل وضامنا الفوز، حيث غرور الثقة بالنفس الحاكمة، القادم من فهم مفترض أن الجمهور يؤثر القديم السيئ على الجديد غير المعروف تماما. أو لربما ان الافتراض منه أن الجمهور/الناخبين يفضلون الواقعي على الرومانسي..شيء من هذا القبيل.
غرور المرشح يثير المرشح الأول والمرشحة الثانية ويستفزهما، وصولا الى تبادل العنف الكلامي والاتهام، وقد أبدعا الفنان عنان أبو جابر والفنانة يارا جرار في الأداء التمثيلي الصوتي المتسارع، بما حمل من مترادفات لغوية ونزق وانفعال لربما فرّغ طاقات الناخبين/ المتفرجين، حيث شدنا ذلك التتابع الكلامي المتسارع كمعبر عن حلات دفق عنفية انفعالية لدى المتنافسين.
وأخيرا يستفز هذا التنافس المحموم، بغض النظر بالطبع عن موقف كل طرف، مديرة العرض الفنانة وأسيل فرحات لمفاجأة الجمهور بأنها وهي المتألمة والمقهورة من كليهما، ترشح نفسها لإدارة العالم، في خطوة لم تكن في بال أحدهما، خصوصا الحاكم الذي تكرر حكمه من قبل والواثق دوما على البقاء في الحكم.
تلك كانت المفاجأة للمرشحين ولنا، باتجاه التغيير، القادم من وجهة نظر ناقدة لما يكون، ومن شعور الجمهور بالنفور من نظم الحكم.
كما قلنا، لم يظهر مكان محدد، ربما بسبب ما نعيشه من تحولات العولمة، لكن لكل جمهور وما له من إدارة وحكم، وكل جمهور وله رؤياه تجاه المنظومة الحاكمة والناظمة والمهندسة والمبرجمة لشعوبها، لذلك برز على السطح الانتخابي مسألة التعليم المجاني، والمناهج، من منظور فهم ما هو سائد له، أي ما يديم استمرار النظم، لذلك يصير أداة تطويعية لخلق لغة عامة تتقبل الحكم وتعتاده وتدمنه. أما المنظور الآخر فقد رأى فيه إرادة حرة للأفراد بعيدا عن القطيع.
والظن، أن طرح مسألة التعليم هنا كانت ملائمة، في ظل تحولات عيشنا في كثير من البلاد، كون أن التغيير الحقيقي هو ما يأتي من التكوين الأول للأطفال، الذي تريده القوى الحاكمة مطيلا لعمرها.
صحيح أنه هنا المرشح/الحاكم فرانسوا الذي تغلب في المرة السابقة على الفريدو، يتحدث في المطلق عن العالم كله لأجل فكرة سامية يعتقد بها مدفوعا ربما “بإنسانية العولمة”، لتخفيف النزاعات للتأثير على الجمهور الناخب، لكن هذا لا يمنع من جعل ذلك منطبقا على مكان معين.
بسبب التوتر في المناظرة، أفسح المخرج لبعض الهنات الكوميدية تخفيفا على الجمهور، التي لاقت استحسانا، خصوصا أن العرض بشكل عام يجيء في سياق مسرح العبث والمسرح الساخر باتجاه ناقد ونقدي.
وبشكل عام، كان يمكن تخفيف الحديث الذي صعب علينا متابعته، مفسحا المجال للعنصر القوي هنا، وأقصد به الحركة الذاتية للأجساد، وليس حركة الجسد على الخشبة.
كان اختيار الملابس واللون مناسبا لشخصيات العرض، الأزرق البارد للتقليدي، الأحمر للحالم، الليلكي للبديل ربما من عالم الفلك..بما يحمل من رؤية جديدة. أما الديكور فقد جذبت المناظرة الجمهور، فكان اختيار الديكور البسيط موفقا، مع أنه كان ممكنا تعميق ذلك من خلال السينوجرافيا كرؤية مواد لها علاقة بالانتخابات.
وأخيرا:
الأدب والفن من الحياة، باتجاه إثارة التفكير كي يختار البشر حياتهم عن وعي؛ فليست فضيلة الإبداع على تنوعه هو عكس الحياة بصدق فقط، بل من المهم أن يكمن دوما في الذهن اتجاه الإنسانية الحرة، غير المثقلة بإرث التحكم والسيطرة. ينطبق ذلك على الأفراد والجماعات والشعوب، لربما تلك هي خلاصة فلسفة الفن والجمال لدى كثيرين.
على مدار التاريخ، دوما ثمة ارتباط بين مناهج التعليم ونظم الحكم، عبر الحضارات، ويمكن تصفح مثلا أي كتاب تاريخي لتجد ذلك، من ولد يوارنت في تاريخ العالم، إلى تاريخ أي شعب وثق روايته، من على جدران المعابد، الى الكتب والوسائط الالكترونية.
هنا، ثم اختلاف بفعل العولمة، أو ما يمكن أن يكون تحكم الدول الكبرى وما يرتبط بها من نظم، حيث راح المتحكمون ينشدون سيطرة على الآخرين، وهم يبغون استمرار ذلك، فعمدوا الى التعليم، كونه عامل التكوين المهم في حياة الشعوب.
ويمكننا بعد المشاهدة تأمل ما يجري هنا في بلادنا، وفي العالم، من تدخلات تنتهي بالحروب لفرض السيطرة، وحسم الجدال والنزاع بالقوة. لكن مهما فعل المتحكم والمستبد، فسيظل ذلك مؤقتا، وسيجد الناس دوما مجالا لهم ولخصوصياتهم، تلك هي الإنسانية، وتلك هي إدارة العالم الإيجابية..شكرا شباب الناصرة وشاباتها.
طاقم العرض: دراماتورجيا واستشارة فنية: مايا أمية قيش، تصميم ملابس، ديكور واضاءة: نانسي مكعبل، مساعدة مخرج ومديرة انتاج: فاطمة خطيب، موسيقى: نور خل، منذر عودة، فرقة موسيقية: باسل مفرج، نور خل، مازن حمدان، نانسي مكعبل، تقنيات: مطانس مزاوي، محمد شاهين.