في الأسابيع الأخيرة، وبعد عامين من مراقبة الأزمة سورية وهي تتكشف بقلق هادئ، تخلت إسرائيل عن سياستها في ضبط النفس، وشنت غارة جوية بالقرب من دمشق. وما تزال الحقائق غامضة. لم تصدر إسرائيل أي بيان، ولم تتبن أي مسؤولية عن الضربة، على الرغم من أن وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك، الذي كان يتحدث في مؤتمر أمني رئيسي في ميونيخ، اقترب كثيراً من الاعتراف بالتورط. ومع ذلك، كانت الحكومة السورية سريعة في الإعلان عن شن غارة إسرائيلية على “مركز أبحاث” في محيط دمشق وإدانتها، وكذلك فعل حليفا النظام، إيران وحزب الله. وكانت الصحافة الدولية والإسرائيلية قد تكهنت بأن إسرائيل هاجمت قافلة تقوم بنقل صواريخ أرض-جو الحاسمة المغيرة لقواعد اللعبة على الأرض، والتي كانت سورية على وشك نقلها إلى حزب الله، وربما وضعت مؤقتاً في “مركز الأبحاث” ذاك في طريقها إلى لبنان.
وأكد هذا الحدث جانباً غريباً من الأزمة السورية المتكشفة: أن إسرائيل ظلت، على عكس جيران سورية الأربعة الآخرين -تركيا والعراق ولبنان، والأردن- غير متورطة إلى حد كبير في شؤون ذلك البلد، ولو مع زوج من الاستثناءات الجديرة بالملاحظة. الأول، في أيار (مايو) 2011، حين عبر مئات الفلسطينيين العزل خط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان، بتشجيع، أو على الأقل باتفاق ضمني، من السلطات السورية. الثاني، في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، حين سقطت بضع قذائف هاون أطلقت من سورية في مرتفعات الجولان. وتبين أن كلا الحادثتين غير مهمتين، خاصة بالمقارنة مع خطورة الحرب الأهلية السورية وتأثيرها على السياسة الإقليمية والعالمية.
ولم يعكس موقف إسرائيل السلبي عدم اهتمام بمستقبل سورية ونظام الرئيس بشار الأسد، بل على العكس من ذلك، إذ يدرك واضعو السياسات والمحللون الإسرائيليون تماماً طبيعة التداعيات الهائلة التي يمكن أن يجلبها سقوط الأسد على الأمن الإسرائيلي. ولكنهم يعرفون أيضاً أن قدرة إسرائيل في التأثير على السياسة الداخلية السورية تبقى محدودة، وأن أي تدخل إسرائيلي سوف يلحق ضرراً كبيراً بالمعارضة. وقد حاول الأسد والناطقون باسمه منذ بداية الصراع تصوير التمرد؛ لا على أنه انتفاضة محلية أصيلة، وإنما باعتباره مؤامرة يحركها أعداء خارجيون مثل الولايات المتحدة وإسرائيل. ولذلك، كان النظام سيستغل أي تدخل إسرائيلي، حتى لو كان معنوناً بأهداف إنسانية ظاهرياً، ويقدمه كدليل على أن موقفه كان مبرراً.
على الرغم من أن إسرائيل ظلت سلبية، فقد ظلت ترصد عن كثب مجريات الأحداث في سورية. وكانت تشعر بالقلق من عدة نتائج سلبية محتملة: احتمال أن يتم استبدال نظام الأسد بنظام إسلامي، بل وربما جهادي؛ واحتمال أن يؤدي سقوط النظام إلى حلول الفوضى، وأن يشن الجهاديون هجمات إرهابية ضد إسرائيل من مرتفعات الجولان في الشمال؛ احتمال أن يقوم النظام بنقل بعض الأسلحة الكيميائية والبيولوجية إلى حزب الله، أو من احتمال أن تقع هذه المخزونات في أيدي المتمردين المتطرفين؛ وأخيراً، من أن يعمد النظام نفسه، عندما يدق ناقوس نهايته، إلى إطلاق صواريخ على إسرائيل في فصل ختامي على غرار المجد الشمشوني. وبعبارات أكثر عمومية، خشيت إسرائيل من احتمال أن يحاول النظام وحلفاؤه تحويل الأزمة إلى صراع آخر مع إسرائيل. وقد عملت إسرائيل ضمنياً، وبالتنسيق مع واشنطن في كثير من الأحيان، من أجل قطع الطريق على بعض هذه التطورات. وفي مناسبات عدة، أطلقت إسرائيل تصريحات علنية حول “خطوطها الحمراء” في الأزمة السورية.
كان نقل منظومات الأسلحة المتطورة إلى حزب الله واحداً من هذه الخطوط الحمراء. ويبدو أن قادة إسرائيل وصلوا مع نهاية كانون الثاني (يناير) إلى استنتاج مفاده أن مثل هذا النقل كان على وشك الحدوث، فقرروا التحرك. وكان هؤلاء القادة على علم تام بالجانب السلبي الذي يترتب على توجيه ضربة: حيث كان من المرجح أن يجني النظام فائدة سياسية من عمل إسرائيل العسكري، ولم يكن يمكن استبعاد احتمال رد فعل من سورية أو حزب الله، وإثارة أزمة أكبر.
وقد تحققت مثل هذه السيناريوهات في جزء منها فقط. فقد شن النظام السوري حملة دعائية واسعة النطاق، هدفت إلى تصوير الغارة الإسرائيلية باعتبارها عنصراً رئيسياً من مكونات الأزمة الحالية، وتصوير النزاع على أنه عربي-إسرائيلي، وليس حربا أهلية سورية.
واتخذت إيران وحزب الله خطاً مماثلاً وأصدرتا تهديدات غامضة بالرد الانتقامي. لكن نظام الأسد أوضح، على الرغم من ذلك، أنه لا ينوي الرد بالقوة. وأشار وزير الدفاع السوري إلى أن دمشق لم تردّ لأن العمل الإسرائيلي كان في حد ذاته رداً على الأضرار التي ألحقتها سورية بإسرائيل. ويقف هذا الفصل كله في تناقض حاد مع مسار الأحداث في أيلول (سبتمبر) 2007، عندما دمرت إسرائيل مفاعلاً نووياً كانت كوريا الشمالية تقوم ببنائه لسورية. وبقيت إسرائيل صامتة من أجل مساعدة الأسد في تجنب الحاجة إلى الرد، ولعب الأسد نفس اللعبة. وفي هذه المرة، كانت للأسد كل المصلحة في اللعب على الهجوم الإسرائيلي؛ لكنه ما يزال يتعامل بحذر بالغ. وتبقى الانقسامات السياسية حول تأجيج التوتر مع إسرائيل واضحة. ولكن، ونظراً للحالة المزرية التي تمر بها القوات المسلحة السورية، فإنه يمكن لصدام عسكري مع إسرائيل تزويد المتمردين بالفرصة الذهبية التي لم تكن قد خطرت لهم ببال حتى الآن.
يبقى من الصعب في هذا الوقت تحديد مدى النجاح الذي حققته الغارة الإسرائيلية على سورية. كانت التداعيات السياسية محدودة، ولم يكن ثمة تأثير على مسار الحرب الأهلية السورية. لكنه لم يكن للضربة بالضرورة ذلك الأثر الرادع الذي سعت إسرائيل إلى إحداثه، وربما ما يزال النظام وحلفاؤه بصدد بذل مزيد من الجهود لنقل منظومات الأسلحة المتطورة إلى حزب الله.
يرجح كثيراً أن يتلاشى الفصل الحالي ويذهب إلى قاع الذاكرة، لكنْ ما يزال هناك خطر حقيقي من حدوث أزمة أوسع نطاقاً، تجر إسرائيل بشكل أكمل إلى المستنقع السوري. ما يزال بوسع الأسد محاولة نقل أسلحة متطورة إلى حزب الله. كما أن مستقبل الترسانة السورية، بما في ذلك مخزوناتها من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، موضع تساؤل. وقد تقرر إسرائيل العمل مرة أخرى. وإذا كان الأمر كذلك، فيحتمل كثيراً أن تقوم سورية، أو حزب الله، أو إيران بالرد أيضاً. وستتحدد حساباتهم في مثل هذه الحالة بوضع الحرب الأهلية السورية، ومأزق حزب الله في لبنان، ووضع التعاطي الإيراني مع الولايات المتحدة وحلفائها بشأن القضية النووية الإيرانية. ويرجح أن تكون ردودهم، إن حدثت أصلاً، في شكل هجوم إرهابي على غرار ذلك الذي شنه حزب الله ضد السياح الإسرائيليين في بلغاريا، أكثر من كونه هجوماً عسكرياً تقليدياً.
بالنظر إلى هذه التهديدات الموجهة إلى الاستقرار الإقليمي، لم تكن الحاجة إلى اتخاذ الولايات المتحدة زمام المبادرة في البحث عن حل للأزمة السورية أكثر إلحاحاً مما هي الآن. ولا شك أن قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما زيارة المنطقة في ربيع هذا العام، وتضمين الأزمة السورية في جدول أعماله، هي خطوة في الاتجاه الصحيح.
(فورين أفيرز) ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية.
*مفاوض إسرائيلي سابق كبير مع سورية، رئيس معهد إسرائيل، وزميل رفيع غير مقيم في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينغز.
*نشر هذا التحليل تحت عنوان:
Israel Steps Into Syria: What the IDF Air Strike Means for the Conflict
ala.zeineh@alghad.jo