أثار قرار «مجلس حقوق الإنسان» التابع للأمم المتحدة في 23 من تموز/يوليو الماضي، القاضي بإرسال لجنة تقصي حقائق إلى قطاع غزة للتحقيق في عدوان «الجرف الصامد» غضباً داخل الحكومة الإسرائيلية، خشية إدانتها مرة ثانية بارتكاب جرائم حرب، بعد تقرير القاضي ريتشارد غولدستون الذي حقّق في عدوان «الرصاص المصبوب» على غزة 2008 /2009.
وتبنى المجلس، الذي يضم 46 عضواً، مشروع القرار الذي طرحته فلسطين بغالبية 29 صوتاً، بينها الدول العربية والإسلامية التي انضمت إليها الصين وروسيا ودول أميركا اللاتينية ودول أفريقية، فيما عارضته دولة واحدة وحيدة فقط هي الولايات المتحدة، وامتنعت 17 دولة أوروبية عن التصويت.
وندّد القرار بالانتهاكات المنهجية والفاضحة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتحديداً خلال الهجوم العسكريّ الإسرائيليّ الأخير على قطاع غزّة، الذي شمل هجمات عشوائية وغير متكافئة يمكن أن تشكّل جرائم حرب.
«غولدستون 1» يعود إلى الأذهان
عند سماع خبر كهذا، يحضر في بال المواطنين مشهد تراجع السلطة الفلسطينية بشكل مفاجئ عن مشروع قرارٍ (تقرير غولدستون) كان من المقرر أن يتم التصويت عليه في مجلس حقوق الإنسان. فيشرح الخبير في القانون الإنساني الدولي حنا عيسى لـ«السفير» إن اللجنة التي تابعت «غولدستون» رفعت تقريرها إلى مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة حتى يتم تبنيه في «مجلس الأمن» بعد ذلك، إلا أنه لم يسلك هذه الطريق. وكانت تقارير صحافية قد نسبت إلى مصادر- لم تسمّها – قولها، إن السلطة تعرضت لضغوط أميركية وإسرائيلية لسحب دعمها للقرار بدعوى أن من شأنه أن يقوض جهود عملية السلام. وأيضاً، تعرضت لتهديدات بأن يتم قطع المساعدات كافة التي تمنحها واشنطن لفلسطين، وكذلك توقيف إسرائيل لعائدات الضرائب التي تعتمد عليها السلطة في دفع رواتب موظفيها.
وذكّر عيسى بمحكمة العدل الدولية في لاهاي في العام 2004 التي أقرّت بأن جدار الفصل العنصري غير قانوني ومنافٍ للقانون الإنساني الدولي. ورغم ذلك، لا تزال إسرائيل منذ ذلك الحين حتى الآن تصادر الأراضي وتتوسع بالجدار.
لذلك، يرى عيسى أن لجنة التحقيق التي ستزور غزة، ستصدر تقريراً بالنتائج ذاتها التي جمعها غولدستون، سيدين إسرائيل لكنه لن يمرّ عبر «مجلس الأمن» لتتم محاسبة إسرائيل بعد ذلك، نظراً للفيتو الأميركي. سيتكرر مشهد غولدستون. يجدر هنا التذكير بأن مجلس الأمن يتكون من خمسة أعضاء دائمين لهم حق النقض (الفيتو) وهم: روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا، والولايات المتحدة. ويعود سبب حصولهم على مقاعد دائمة إلى تحقيقهم انتصارات في الحرب العالمية الثانية.
تعقيدات الانضمام «للجنائية»
تعالت الأصوات المطالبة بانضمام فلسطين إلى «المحكمة الجنائية الدولية» في أثناء العدوان الأخير على غزّة، لمحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين.
والمحكمة الجنائية نشأت في العام 2002 بعد إقرار نظام روما في العام 1998، لملاحقة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء. وتقوم بعملها عندما تستنفد المحاكم الوطنية دورها، ويبلغ عدد قضاتها 18، وفيها مدعٍ عام، بالإضافة إلى المحكمة البدائية والاستئنافية.
ويبلغ عدد الدول الموقعة على نظام روما 121 دولة. عربياً، انضم الأردن والمغرب وموريتانيا فقط إلى المحكمة الجنائية، فيما لم تصادق أميركا وإسرائيل على نظام روما. ويأتي عدم مصادقة باقي الدول العربية على «النظام» خشية ملاحقة حكامٍ على جرائم حقوق الإنسان، كما أن أميركا وإسرائيل تتخوفان من الأمر ذاته، كما من ملاحقة جنودهما خارج أراضيهما.
وعلى الرغم من أن المطلب يعدّ وطنياً ومشروعاً، لكن، على أرض الواقع، يصعب تنفيذه نظراً للمعيقات الداخلية والخارجية وشروط الانضمام «للجنائية الدولية». ومن أهم شروط «الجنائية الدولية» لمحاسبة مجرمي الحرب أن تُرفع الدعوى من دولة مصادقة ضد دولة مصادقة، بينما فلسطين وإسرائيل ليستا أعضاء فيها. وفي حال صادقت فلسطين على نظام روما وانضمت «للجنائية» الدولية، فهي لن تستطيع رفع دعوى على إسرائيل كون الأخيرة ليست عضواً.
وفي هذا الإطار، يذكر عيسى بأن انضمام فلسطين «للجنائية» وإصدار الأخيرة قراراً ضد إسرائيل، لن يحول دون استخدام أميركا لحق «الفيتو» ضد فلسطين.
وأحد المعيقات الأخرى الهامة يتمحور حول أن الانضمام يحتاج إلى إجماع فصائليّ شامل، إذ تستطيع المحكمة أن تلاحق فلسطينيين بتهمة «جرائم حرب» محتملة. كذلك، يستطيع المدعي العام الدولي تأجيل النـــــظر في القضية لسنة ويمددها لسنة أخرى، بينما يستطيع مجلس الأمن بقرارٍ أن يؤجلها لسبع سنوات.
غير أن عيسى أشار إلى وجود مسارات أخرى يستطيع المواطن الفلسطيني أن يعتمدها ليحاسب مجرمي الحرب الإسرائيليين. وأوضح أن المادة 15 من ميثاق روما تسمح للمواطن المتضرر بأن يقدم للنائب العام في «الجنائية» شكوى رسمية ضد مسؤولين إسرائيليين، فيقوم النائب العام بملاحقتهم قضائياً. وأكد أن هذه الخطوة لا يطالها «الفيتو» الأميركي ولا تشترط أن تكون إسرائيل مصادقة على ميثاق روما.
وتابع: «هناك مسارات أخرى كمحاكم الدول الأوروبية التي تتفق قوانينها مع اتفاقية جنيف الرابعة، وهي تشير إلى ملاحقة مجرمي الحرب». وقال إن الفلسطيني يستطيع من خلال محام يحمل جنسية أوروبية أن يرفع دعوى ضد قادة إسرائيليين ارتكبوا جرائم حرب، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن هناك دولاً كبريطانيا عدّلت قوانينها بحيث لا تحاكم مجرمي حرب على أراضيها.
وعلى الرغم من أن طرح موضوع الملاحقة راهناً «عاطفي»، أكد عيسى أن الجرائم لا تسقط مع مرور الزمن: «علينا كفلسطينيين أن نحضّر الملفات للحظة المناسبة التي يمكن فيها أن يُقَدَّمَ مجرمو إسرائيل للمحاسبة».
«غولدستون 2» يستفز إسرائيل
صمتت تل أبيب لفترة طويلة في أثناء العدوان عن الانضمام «للجنائية الدولية»، رغم تلويح السلطة الفلسطينية المستمر بالانضمام. وبدأت الأصوات ترتفع بعد انتهاء العدوان لمنع الحكومة الإسرائيلية من التعاون مع اللجنة، واصفةً إياها بأنها ستكون «غولدستون 2» لكن أصعب.
أوصت وزارة الخارجية الإسرائيلية بعدم التعاون مع اللجنة بدعوى أن الأغلبية التلقائية معادية لإسرائيل داخل مجلس حقوق الإنسان. وبدوره، قال رئيس الكنيست يولي ادلشتاين إنه لا يجوز لإسرائيل أن تتعاون مع اللجنة للتحقيق في تداعيات العملية العسكرية في قطاع غزة. ورأى انه لا يمكن التعاون مع جهات تسعى لتشويه صورة إسرائيل وتوجيه اتهامات إليها وكأنها ارتكبت جرائم حرب.
وقبل انعقاد مجلس حقوق الإنسان بيومين، طالبت عشر منظمات حقوقية الحكومة الإسرائيلية بالتراجع عن شن حرب على القطاع. ووجهت المنظمات العشر «رسالة عاجلة» نقلها مركز «مدار» للدراسات الإسرائيلية، إلى المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية هودا فاينشتاين، ووجهت نسخة عنها إلى رئيس النيابة العسكرية داني عفروني، بعنوان: «شبهات حول انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي خلال عملية الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة».
وطالبت هذه المنظمات العشر المستشار القانوني للحكومة بإصدار تعليماته إلى الحكومة بالامتناع عن انتهاك قوانين الحرب وبالعمل الفعلي لفحص مدى قانونية سياسة الهجوم وتعليمات إطلاق النار التي يعتمدها الجيش الإسرائيلي. كما طالبته، أيضاً، بإبلاغها ما إذا كان قد اهتم بمراقبة ماهية الاستشارة القضائية التي قدمتها النيابة العسكرية لقادة الجيش في إطار الحرب الحالية، داعية إياه إلى التحرك من أجل تشكيل هيئة تحقيق خارجية، مستقلة وفاعلة، تناط بها مهمة الفحص المعمق لقرارات القيادة السياسية والقيادة العسكرية، طبقاً لما يوجبه القانون الدولي ولما أكدته المحكمة العليا الإسرائيلية في عدد من قراراتها.
وأكدت الرسالة أن غالبية الذين تم استهدافهم من الفلسطينيين مدنية.
أما دوليا، فقد قال الأمــــــين العام للأمم المتحدة بان كي مون إن هجمــــــات قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي على منـــــشآت الأمم المتحدة في قطاع غزة جريـــــمة إنسانية. وأدان مون خلال كلمته التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمن حول تطور الأوضاع في غزة، الهجوم الإسرائيلي على منشآت الأمم المتحدة، واستهداف المدنيين بداخلها.
السفير اللبنانية – ملحق فلسطين –عماد الرجبي