لم تضع الحرب الأخيرة أوزارها على قطاع غزة، إلا بعد أن أخذت إسرائيل تعهداً من مصر ببذل جهود حثيثة لوقف تهريب الأسلحة إلى حركة حماس، تخوفاً من تنامي قوتها العسكرية تحضيراً للجولة القادمة، ولذلك حصلت زيارات متبادلة بين القاهرة وتل أبيب لبحث وتقييم آخر الجهود الأمنية في هذا الإطار، كان آخرها قبل أيام قليلة.
وترى تل أبيب أن القاهرة تمر هذه الأيام بـ”مرحلة اختبار” ستعمل فيها لمنع تسلح غزة من جديد بصواريخ طويلة المدى تهددها، خاصة وأن جزءً مما أطلق تجاهها وصلت من عواصم خارج الحدود، ومرت عبر آلاف الكيلومترات، دون أن تحرك مصر ساكنًا لمنع تهريبها، رغم توقع الولايات المتحدة وإسرائيل أن يعمل الحكم الجديد في القاهرة بكل قوة ضد تهريب السلاح عبر أراضيها لقطاع غزة، لافتة إلى إحباط 3 عمليات تهريب سلاح إلى غزة، وصلت من إيران وليبيا.
المسافات الشاسعة
رغم أن إسرائيل تفرض ظلالاً كثيفة من التكتم حول مسارات التهريب، لكنها تزعم أن جزءً لا بأس به من الأسلحة المهربة إلى غزة قادمة من أماكن بعيدة، وتتساءل عن كيفية وصولها إلى سيناء رغم المسافات الشاسعة، ناهيك عن دخولها قطاع غزة، لأن المسافة تزيد على 2000 كم.
ورغم أن التحركات في سماء المنطقة تقع تحت رقابة سلاح الجو الإسرائيلي، فإنها لا تخفي تخوفها من افتتاح مسارات جديدة لتهريب الأسلحة إلى غزة، فما أن تسد خرقاً حتى تستعد لخرق إضافي، وسفن جديدة، وشركات وهمية ناشئة، ومسارات مفتعلة، وعملاء جدد، وتعتقد أنها حرب استخبارية لا تنتهي، ما يتطلب استعمال ضغط دولي: عسكري، سياسي، واستخباري على مسارات التهريب في المنطقة.
بعض التسريبات الإسرائيلية على قلتها تتناول نوعية السلاح الذي يدخل غزة حالياً بعد انتهاء الحرب الأخيرة، زاعمة أن المسألة تخضع للعرض والطلب، حيث ظهرت لأول مرة المدافع من عياري 250 و500 ملم، المحملة على سيارات نصف نقل تم تعديلها، وبعض أنواع الصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف، “والآر-بي-جي” بأنواعه المختلفة، والمتفجرات بكافة أصنافها، وكل فئات الذخائر.
تحذير إسرائيلي دخل ساحة المناقشات الإسرائيلية في الأشهر الأخيرة يتعلق بالجهود الحثيثة التي يبذلها من أسمته “الجهاز العلمي” لحركة حماس، ليُمكّنها من إنتاج قذائف صاروخية خاصة تحمل رؤوساً قابلة للاشتعال ترمي لإشعال أراض إسرائيلية، وفقاً لما بات يسمى “الأهداف المفضلة” لديها حول غزة، خاصة وأن الحركة باتت معنية منذ زمن بأهداف إسرائيلية بحرية مدنية وعسكرية، لكنها لم تنجح حتى الآن بتحقيق خططها، لأن سلاح البحرية نجح في إبطال عمل سباحين فلسطينيين وبراميل وقوارب تحمل المتفجرات.
جهد آخر تبذله إسرائيل مع الولايات المتحدة عبر مذكرة تفاهمات تتعلق بمكافحة تهريب السلاح لحماس، حيث أُنشئت مجموعة عمل من عدة دول غربية تشتغل بنقل معلومات استخبارية، وإحباط تهريب سلاح عن طريق البحر إلى غزة، واحتُجزت شحنات سلاح خرجت عن طريق البحر، في ظل تنوع محاولات طرق التهريب، ونقل كمية كبيرة من وسائل القتال عن طريق البحر، مما جعلت موردي السلاح يزيدون في استعمال الوسط البحري، ويتم نقل شحنات وسائل القتال هذه عبر شركات ملاحة دولية وموانئ أوروبية، باستعمال واسع لشركات وهمية ووثائق غير دقيقة.
الملاحظ في الآونة الأخيرة أن الإعلام الإسرائيلي كثف من تقاريره لما أسماها “نجاحات” سلاح البحرية بإحباط تهريبات سلاح إلى غزة، وتقدم شكرها لما تقوم به أجهزة الأمن المصرية لمواصلة عملياتها في هذا الإطار، وأن المكان الرئيسي لضبطها يتركز بمناطق “مرسي مطروح، السلوم، والسويس”.
وكان لافتاً تصريحات قائد القوات المتعددة الجنسيات في سيناء “جيمس فياتنيغ” من أن وسائل قتالية, بينها صواريخ أرض-جو روسية الصنع معروفة اختصارا باسم “سام24”, وصلت للمجموعات المسلحة في إطار عمليات التهريب المنظمة انطلاقاً من ليبيا، وتستهدف طائرات على ارتفاعات تزيد عن 11 ألف قدم, مع دقة إصابة عالية.
· إحباطات عسكرية
لكن ما يواجه أجهزة الأمن الإسرائيلية والمصرية من عقبات تتمثل في أن مهربي الأسلحة أكثر تطوراً منهما أحياناً، لاستخدامهم سيارات الدفع الرباعي المزودة بأجهزة تحديد المواقع الجغرافية GPS، وبحوزتهم هواتف “الثريا” المرتبطة بالقمر الصناعي، فيقطعون هذه المسافة رأساً بما لا يزيد على 600 كم إلى الجنوب الشرقي في مناطق لا يوجد بها جندي واحد، وإن وجد فلا يمكن أن يعرض حياته للخطر، ويمكن بسهولة “شراء” بعضهم.
وبعيداً عن الطريق الصحراوي، هناك 4 مسارات رئيسية لوصول البحر الأحمر وقناة السويس قبل الانتقال للمرحلة الثانية من الرحلة، وهي نقل السلاح داخل سيناء، عبر عدة طرق ساحلية ودولية تجد وجهتها النهائية بسيناء أو غزة، لأنه بمجرد عبور قناة السويس يضمن المهرب توصيل السلاح لوجهته النهائية لسببين: أولهما درايته بدروب وشعاب سيناء، وقدرته على تلافي المرور على نقاط التفتيش الأمنية، وثانيهما ضعف التفتيش الأمني ذاته، وإن كان قد تحسن كثيراً بعد انتشار القوات المسلحة على طول الطريق لشمال سيناء.
هذه الإيضاحات الإسرائيلية ليس مصدرها أجهزتها الأمنية فحسب، بل اعترافات المعتقلين المتورطين في عمليات تهريب الأسلحة، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن مصدرها الأساسي من السودان، قبل دخول ليبيا على الخط، وخطفها الأنظار، وكان يتم تهريبه من منطقة “كسلا” شرق السودان، البعيدة عن الحدود المصرية مسافة 700 كم، لتدخل بعدها الصفقة محافظة أسوان أو البحر الأحمر، وتحديداً بمنطقتي “حلايب وشلاتين”، في رحلة تستغرق 15 يوماً، تقوم خلالها الجماعات بتولي تأمين الشحنات من نقطة لأخرى، مقابل الحصول على نصيبها سلاحاً أو نقداً.
هنا يبدو مستغرباً الحديث عن شبكات تهريب الأسلحة دون الحديث عن ظاهرة الأنفاق بين سيناء وقطاع غزة، والجهود المصرية في الأيام الأخيرة لإغلاقها عبر إغراقها بالمياه، والحديث المصري الحاسم على عزمه على التخلص نهائياً منها، خاصة وأن التقديرات تتحدث عن 1200 نفقاً، حيث يلجأ الجيش المصري لتكتيك الإغراق بالمياه حين يكون النفق مجاوراً لمنطقة سكنية أو منشآت لمواطنين، ويخشى أن يؤدي تفجيره لانهيارات أرضية تؤثر على منازل أهالي سيناء في هذه المنطقة.
إسرائيل تلفت الأنظار بين حين وآخر لما تعتبره تطورات ميدانية تحصل على حدودها الجنوبية، وتحديداً مناطق سيناء والشيخ زويد وقناة السويس، وما تقول أنها “معارك ضارية” تنشب بصورة متقطعة بين قوات معززة من الوحدات الخاصة المصرية وأفراد القبائل البدوية هناك، يقومون بأعمال نقل الأسلحة لتنظيمات معادية في أماكن مختلفة من منطقة الشرق الأوسط، والبضائع والأموال إلى حركة حماس في قطاع غزة.
الجديد في الأمر، ودائماً وفق الرواية الإسرائيلية، أن المعارك تجري بإشراف ومراقبة من قبل قوات عسكرية غربية متواجدة بصورة دائمة في سيناء، وتشبه إلى حد بعيد طبيعة المعارك التي تدور بين قوات الجيش الباكستاني وتنظيم القاعدة وحركة طالبان في منطقة “وزيرستان” شمال غرب باكستان، حيث تستخدم القوات المصرية دبابات عسكرية، ناقلات جند، سلاح المدفعية، طائرات حربية مقاتلة، وفي العديد منها لا تنجح في السيطرة على القبائل البدوية، حيث تنسحب عقب كل جولة، للاستعداد من جديد لموجة جديدة من المواجهات العسكرية المتوقعة خلال الأيام القريبة القادمة.
عدنان ابو عامر