الاعتقاد الواثق بأن العالم سوف يرغي ويزبد -ولكن من دون أن يفعل شيئاً فعلياً يعتد به بينما تمضي إسرائيل قدُماً في مصادرة الأراضي الفلسطينية، ظل لفترة طويلة جزءاً من العقيدة السياسية الإسرائيلية الراسخة. وقد ظل اليمين الصقوري يحتفي بهذه العقيدة، بينما يتنهد اليسار الحمائمي أمامها في إحباط عاجز.
لكن ذلك ربما لن يستمر. فمنذ جعل التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر) فلسطين “دولة غير عضو بصفة مراقب”، أصبح على الإسرائيليين مواجهة احتمال أن يُنزل العالم أقدامه ويكف عن سلبيته، بينما تبدو إسرائيل ذاهبة تدريجياً باتجاه التبرؤ من فكرة إنشاء دولتين منفصلتين لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وبالإضافة إلى ازدراء الدول، تزدري السياسة الإسرائيلية الأمم المتحدة بشكل عام أيضاً، بما فيها من الكتلة المسلمة الكبيرة، وموقف أغلبيتها الساحقة الروتيني المناهض لإسرائيل كلما سنحت الفرصة. وكان قد طُلِب إلى الدبلوماسيين الإسرائيليين السعي إلى تحقيق “أغلبية أخلاقية” من الدول الغربية لمعارضة هذا القرار الأخير. ولكن، وباستثناء الولايات المتحدة وكندا وعدد من الدول-الجزر الصغيرة في المحيط الهادئ، فقد صوتت جمهورية التشيك فقط إلى جانب إسرائيل، بينما صوتت بقية أوروبا مع الفلسطينيين أو امتنع ممثلوها عن التصويت. وكان الشعور السائد في القدس وفي أوساط بعض أصدقاء إسرائيل في واشنطن هو أن إدارة باراك أوباما لم تبذل ما يكفي من الجهد لإقناع حلفائها الأوروبيين بدعم إسرائيل. وفي الحقيقة، يشتبه البعض بأن يكون أوباما قد غمز لهم من طرف خفي.
وقد رد بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بإعلانه في اليوم التالي عزم إسرائيل بناء آلاف المنازل الجديدة في المستوطنات اليهودية الواقعة في الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة، والأهم من ذلك هو أن البناء سيكون في الممر المسمى E-1، وهو مساحات شاسعة من الأرض الفارغة والصخور التي تفصل القدس عن معاليه أدوميم، وهي مستوطنة إسرائيلية كبيرة إلى الشرق من المدينة، وسيكون من شأن البناء الاستيطاني في هذه المنطقة أن يقسم جنوب الضفة الغربية عن شمالها إلى نصفين.
كانت الحكومات الأميركية والأوروبية قد قالت دائماً إن البناء على أراضي المنطقة E-1 هو خط أحمر لا ينبغي لإسرائيل أن تتجاوزه. وهكذا، فوجئت هذه الحكومات عندما قرر نتنياهو أن يدير لها ظهره بعد تصويت الأمم المتحدة بقوله إنه يعتزم القيام بذلك تحديداً. وعلاوة على ذلك، كان قد مضى أسبوعان بالكاد منذ أيد الأميركيون ومعظم الحكومات الأوروبية، ولو ببعض الشكوك، هجوم إسرائيل العسكري ضد حركة حماس في قطاع غزة، التي كانت تطلق الصواريخ على القرى والبلدات الإسرائيلية القريبة.
ومع ذلك، شعر الإسرائيليون فجأة بأن الهمهمات والدمدمات المعتادة من العالم الغربي ربما تتحول وتصبح جدية. ففي لندن، وباريس، وكانبيرا وغيرها من العواصم التي عادة ما تكون ودية تجاه إسرائيل، تم استدعاء السفراء الإسرائيليين رسمياً وإبلاغهم باستياء الدول المذكورة، في تعبير منسق عن السخط الدولي. وفي بعض المداولات الأوروبية، كان هناك حديث عن تعليق الاتفاقيات التجارية القائمة مع إسرائيل. وقال ويليام هيج، وزير الخارجية البريطانية، إنه على الرغم من أن قيام الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات ضد إسرائيل ليس خياراً، فإنه “إذا لم يكن هناك إلغاء للقرار [بناء المستوطنات] الذي تم الإعلان عنه، فإننا سوف نرغب النظر في ماهية الخطوات الإضافية التي ينبغي على الدول الأوروبية اتخاذها”.
وكان من المفترض أنه قد تم إعلام الإدارة الأميركية وأخذ موافقتها على مثل هذه التصريحات الإسرائيلية، لكن البيت الأبيض الأميركي استنكر القرار الإسرائيلي، ولو بمصطلحات وتعبيرات أكثر توازناً. كما اتهم رام إيمانويل، رئيس بلدية شيكاغو ورئيس موظفي أوباما سابقاً، نتنياهو بخيانة الصداقة مع أميركا.
وبالإضافة إلى ذلك، ظهرت بعض الشقوق في داخل أوساط يهود الولايات المتحدة أنفسهم. فقد ندد الاتحاد من أجل إصلاح اليهودية، أكبر الحركات الدينية في هذه الأوساط، بالقرار الخاص بالبناء في المنطقة E-1. وفي منطقة قسم نيويورك الغربي العلوي، كتب الحاخامات وقادة المجتمع الليبرالي الكبير المسمى، بناي يشورون، إلى الآلاف من أعضائهم مرحبين بقرار الأمم المتحدة الاعتراف بعضوية فلسطين.
وفي إسرائيل نفسها، وقبل أسابيع من الانتخابات العامة المزمع إجراؤها في 22 كانون الثاني (يناير) المقبل، وجه مرشحو المعارضة أصابع اللوم إلى نتنياهو على التسبب بفي إبراز هذا الدليل الصارخ على عزلة إسرائيل المتنامية. وقالت تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية السابقة التي تترشح الآن على رأس حزب وسطي جديد يدعى “الحركة”، إن “نتنياهو قد “وضع إصبعه في عين الرئيس أوباما”.
لكن بعض أتباع السيد نتنياهو يعتقدون بأن هذه الهزيمة الدبلوماسية سوف ترفع من نسبة دعمه في الانتخابات ببساطة. فقد انتقل حزبه “الليكود” بشدة إلى اليمين في الانتخابات التمهيدية لما قبل الانتخابات الرئيسية التي جرت الشهر الماضي، معززاً ساسة المستوطنين ليصبحوا في أعلى قائمة مرشحيه للبرلمان، بينما قذف بالمعتدلين نسبياً، مثل دان مريدور وبيني بيغن، إلى الخارج. ويخوض الليكود الانتخابات الآن على قائمة واحدة مع “إسرائيل بيتنا”، حزب وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان القومي المتشدد. وكان ليبرمان قد حث العالم في الرابع من كانون الأول (ديسمبر) على أن “لا يكون لديه أي أوهام” بشأن عزم الحكومة الإسرائيلية على التمسك بآخر قراراتها الاستيطانية.
ثمة الكثيرون من المرشحين على قائمة الليكود ممن يرفضون صراحة حل الدولتين، بحجة أن إسرائيل ينبغي أن تمتد إلى نهر الأردن. وعلى الرغم من أن نتنياهو أيد ظاهرياً حل الدولتين في العام 2009، فإن إعلانه عن نية البناء في المنطقة E-1 يشير إلى أنه يتعاطف مع أولئك الذين يرفضون ذلك الحل.
ويشعر بعض المخضرمين من متابعي نتنياهو من المراقبين بأن الحدة الصريحة في خطابه الأخير تنم عن شعور بضعف انتخابي في معسكره. ومع ذلك، لم يبرز بعد أي مرشح من الوسط أو اليسار، والذي يبدو من المرجح أن يبني على هذا الضعف مستقبلاً، مستفيداً من الناخبين المترددين الواقفين في منتصف الطريق بشأن الأزمة الدولية الهادرة التي تثيرها سياسة الحكومة الحالية تجاه فلسطين.
وتبدو السيدة ليفني، التي انضمت إلى السباق في وقت متأخر، مصممة على تجسيد هذه الحالة. ولكن أكبر أحزاب المعارضة، حزب العمال، يظل متمسكاً بعرض برنامج يتضمن القضايا الاقتصادية والاجتماعية بشكل أساسي. وثمة مجموعة أخرى جديدة، يش أتيد، بقيادة الصحفي التلفزيوني السابق، يائير لابيد، والتي تتخذ خطاً مماثلاً بدورها. وتتحدى السيدة ليفني الآخرين بأن يعلنوا بشكل قاطع أنهم لن يخدموا تحت رئاسة نتنياهو. لكن زعيم حزب العمال، شيلي يحيموفيتش، والسيد لابيد امتنعا كلاهما عن القيام بذلك، على الرغم من أن السيد يحيموفيتش ربما يكون بصدد التفكير في الخيارات التي تعرضها ليفني. وهكذا، ربما يكون نتنياهو قادراً على الاستمرار في تحدي العالم في الوقت الراهن. ولكن، إلى متى؟
تقرير خاص – (الإيكونوميست) ترجمة: علاء الدين أبو زينة – الغد الاردنية.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان:
Israel and the world: Cocking a snook at the world