حتى الوقت الذي ذهب فيه الناخبون الإسرائيليون إلى صناديق الاقتراع يوم الثلاثاء الماضي، رأت الفكرة المقبولة عالمياً أن اليمين كان في حالة صعود. وكان من المفترض أن يفوز فصيل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو -الذي يضم حزبه المحافظ، الليكود، وحزب أفيغدور ليبرمان الأكثر محافظة، إسرائيل بيتنا- بما يقرب من ضعف عدد المقاعد التي سيحوزها أقرب منافسيه. كان رئيس موظفي نتنياهو السابق، نفتالي بينيت، يقود حزب “البيت اليهودي” الصاعد، وهو حزب يميني قومي يدعو إلى ضم مساحات واسعة من الضفة الغربية. وكان من المتوقع أن يفوز هذان الحزبان وحدهما بنحو 50 مقعداً، وهو الذي كان سيضع نتنياهو في موقف الهيمنة عندما يصل الأمر إلى تشكيل حكومة ائتلافية.
في الأثناء، كانت الأحزاب التي تعد من يسار الوسط تعاني من التخبط. وكان من المتوقع أن يفوز حزب العمل بقيادة شيلي ياشيموفيتش بأقل من 20 مقعداً -من المرجح أن يصبح ثاني أكبر حزب في الكنيست، لكنه لا يحقق مع ذلك أي شيء قريب من الهيمنة التي كان يتمتع بها في التسعينيات تحت قيادة رؤساء الوزراء، إسحق رابين، شمعون بيريز، وإيهود باراك. وبدا من المرجح أن حزب “الحركة” Hatnua الجديد الذي تتزعمه تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية السابقة التي قادت حزب كاديما إلى كسب أصوات أكثر من أي حزب آخر في انتخابات 2009، لن يكسب سوى حفنة من المقاعد. وكان من المتوقع أن يكسب حزب “يش عتيد” (هناك مستقبل) Yesh Atid الذي يتزعمه الصحفي السابق يائير لبيد، عدد مقاعد محترم من 10 إلى 12 –وهو عدد ليس سيئاً بالنسبة لقادم جديد، لكنه ليس كافياً ليصنع كثيراً من الفرق في الحكومة. وربما كانت هذه الأحزاب الثلاثة ستتمكن من هزيمة نتنياهو لو أنها شكلت جبهة موحدة، لكن قادتها أمضوا الوقت في الشجار بدلاً من ذلك. كل هذا –إلى جانب انتخابات حزب الليكود التمهيدية التي طردت المعتدلين في الحزب ورفعت مرتبة متشدديه، وظهور “البيت اليهودي” كحزب قابل للحياة على يمين الليكود، والحضور المتنامي المتوقع للمستوطنين في الكنيست- أشار إلى أن إسرائيل كانت مهيأة لنقلة أخرى إضافية باتجاه اليمين.
ومع ذلك، وبمجرد أن بدأت نتائج التصويت بالظهور، سرعان ما ظهرت رواية جديدة. لم يقتصر الأمر على أن القائمة المشتركة لليكود وبيتنا أبلت أسوأ مما كان متوقعاً، وفازت بمجموع 31 مقعداً فقط، وإنما فاق أداء حزب لبيد، “يش عتيد” التوقعات بحلوله ثانياً مع 19 مقعداً. وفاز “البيت اليهودي” بمجموع 11 مقعداً، محققاً أداءً محترماً، وإنما ليس 16 مقعداً كما توقعت له بعض استطلاعات الرأي. وأخيراً، ضاعف حزب أقصى اليسار، ميرتس، نسبة تمثيله ليرتفع من 3 مقاعد في الكنيست السابق إلى 6 في الكنيست الجديد. وفجأة، تحول المراقبون الذين كانوا يتحدثون قبل ساعات عن انجراف إسرائيل نحو اليمين إلى الإعلان عن عودة الوسط واليسار. وأصبحت الحكمة التقليدية السائدة حول الانتخابات الآن هي أن “يش عتيد” أعاد تنشيط الوسط الاسرائيلي، وأجهض الفكرة القائلة بأن الناخبين الإسرائيليين يميلون إلى اليمين بالضرورة.
مع ذلك، تبقى المشكلة في هذه الرواية أن نتائج يوم الثلاثاء لم تشكل انتصاراً لتيار الوسط حقاً، وأن “يش عتيد” ليس في الحقيقة حزباً وسطياً. كان أكبر جالب للأصوات ما يزال ائتلاف الليكود-بيتنا، المكون من أكثر نسخ الليكود يمينية في تاريخ الحزب، ومن حزب إسرائيل بيتنا القومي المؤيد للاستيطان. كما أبلى حزب البيت اليهودي حسناً أيضاً، وسيكون رابع أكبر حزب في الكنيست بحصيلة 11 مقعداً. وعلى اليسار، كان أداء حزب العمل مخيبا للآمال، حتى إنه لم يتمكن من كسب أصوات كافية ليفوز بالمركز الثاني كما كان متوقعاً. وفي الوقت نفسه، فاز حزب ليفني، الحركة، بمقاعد أقل حتى من الحزب الهامشي الديني المتشدد، يهودية التوراة “يهدودوت هتوراه”. أما كاديما، وهو حزب وسط حقيقي، فقد اختفى وحسب، متراجعاً من 28 مقعداً إلى اثنين. وعلى الرغم من أن الأحزاب اليمينية لم تفعل تماماً كما أملت أن تفعل، فإن الصورة الأكبر لا تؤيد الادعاء بأن الوسط أحرز نصراً كبيراً.
وعلاوة على ذلك، يبقى أمر تجميع أحزاب العمل، والحركة، ويش عتيد تحت يافطة الوسط أو يسار الوسط مسعى كسولاً على المستوى التحليلي. ففي القضايا الاقتصادية، لا تقع هذه الأحزاب الثلاثة بالفعل داخل اليسار والوسط. أما بشأن قضايا السياسات الخارجية والأمن، فإن حزبي العمل والحركة يبدوان وسطيين. ومع ذلك، لا يمكن وصف حزب “يش عتيد” بدقة بأنه وسطي عندما يتعلق الأمر بعملية السلام. وكان لبيد قد أعلن أنه لا يمكن تقسيم القدس تحت أي ظرف من الظروف، وهو يصر على أن الوقوف بحزم في هذه المسألة سيجبر الفلسطينيين على التخلي عن مطلبهم بأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية. وخلال الحملة الانتخابية، اختار لبيد مستوطنة آرييل في الضفة الغربية لتكون المكان الذي يلقي فيه خطاباً رئيسياً للحملة، والذي دعا فيه إلى إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين، لكنه رفض المصادقة على تجميد الاستيطان. ولا شيء من هذا يكفي لوضعه في معسكر اليمين المتطرف، الذي يرفض حل الدولتين ويدعو إلى ضم الضفة الغربية، لكنه لا يجعل منه وسطياً أيضاً. وفي الواقع، تظل وجهات نظر لبيد حول قضايا الأمن قريبة من تلك التي راهن عليها نتنياهو علناً.
الحقيقة الأساسية التي أظهرتها نتائج الانتخابات هي أن الناخبين الإسرائيليين يميلون إلى اليمين. ويبدو الإسرائيليون على استعداد للتفاوض مع الفلسطينيين، لكن عنف الانتفاضة الثانية، وتهديد الهجمات الصاروخية المنطلقة من غزة جعلتهم مترددين إزاء دعم مبادرات سلام دراماتيكية. وهكذا، سيكون من الخطأ النظر إلى خسائر نتنياهو على أنها جاءت نتيجة لعودة صعود الوسط. وقد جاء تراجع الليكود إلى حد كبير بسبب المتشددين الذين تركوا الحزب وقفزوا إلى عربة حزب “البيت اليهودي”؛ لأنهم اعتقدوا بأن نتنياهو لم يكن ملتزماً بحماية المستوطنات والتمسك بالضفة الغربية بشكل دائم. حتى إن مكاسب “يش عتيد” يمكن أن تعزى إلى قرار بعض الناخبين اليمينيين التخلي عن نتنياهو والذهاب إلى لبيد، الذي يقدم نسخة أرق وأكثر قبولاً من السياسة اليمينية، والتي تركز أساساً على إعادة إحياء الطبقة الوسطى. لا أحد في “يش عتيد” يدعو إلى ضم المناطق الفلسطينية، كما يفعل بعض أعضاء الليكود، لكن لبيد لم يقم ببناء حملته على أساس إحياء عملية السلام كما فعلت ليفني. وتذكّر نسخة لبيد من السياسة بنسخة الرئيس الأميركي جورج بوش التي سميت “المحافظية المتعاطفة”، والتي رسمت لنفسها صورة معتدلة، لكنها اعتمدت على الناخبين اليمينيين.
وباختصار، لا يعني صعود “يش عتيد” ولا هبوط الليكود أن الوسط الإسرائيلي قد كسب. وبدلاً من ذلك، أظهر هذا الواقع أن اليمين المتشدد قرر التحرك إلى مزيد من اليمين، فيما اختار اليمين غير الأيديولوجي دعم نسخة أكثر ليونة من الأجندة التي كان قد أيدها مسبقاً.
(فورين أفيرز) ترجمة: علاء الدين أبو زينة – الغد الأردنية .
*مدير برنامج معهد إسرائيل ومرشح لنيل درجة الدكتوراه من جامعة جورج تاون في حقل الحكم.
*نشر هذا التحليل تحت عنوان: No, Israel Did Not Just Vote for the Center: Why the Right Is Still Dominant