لأكثر من شهر الآن، سعت إسرائيل إلى التملص من صنارة ما كان ينبغي أن تقع فيها من البداية. فقد تم إطلاق النار على ولدين فلسطينيين بعمر 17 و16 عاماً وقتلهما خلال احتجاجات ذكرى يوم النكبة بالقرب من رام الله، والتي رمى فيها الشبان الحجارة بلا فعالية على موقع عسكري إسرائيلي بعيد ومحمي جيداً. وكان مئات من الأولاد الفلسطينيين قد فقدوا أرواحهم على مدى السنوات عند نهاية بندقية قناص حاد البصر، لكن مقتل نديم نوارة ومحمد أبو ظاهر في بيتونيا لم يذهب إلى النسيان بسهولة. وسرعان ما حوصرت إسرائيل في الزاوية بأكوام من الأدلة المادية والبصرية على جريمتها.
إنكارات إسرائيل المعتادة –القول بأن الوفيات مزورة، وأن تصوير الفيديو مفبرك، وأن الجنود الإسرائيليين لم يكونوا مسؤولين، أن الشباب استفزوا الجنود، أنه لم يتم استخدام الذخيرة الحية- كلها تساقطت وتم دحضها الواحدة تلو الأخرى. وبالتدريج اعترفت إسرائيل بالمسؤولية، ولو أن ذلك فقط جاء فقط في شكل الالتزام بالصمت المطبق وعلى مضض.
قدمت كاميرا مراقبة منصوبة على الجدار الخارجي لورشة نجارة الدليل الدامغ أكثر ما يكون: فقد التقطت اللحظات التي أصيب فيها الولدان الأعزلان بالرصاصات الحية، وفي إحدى الحالتين يمكن رؤية الشاب وهو يسير مبتعداً عن منطقة الاحتجاج. ولكن، وبدلاً من التصالح مع العالم كما هو الآن، تريد إسرائيل الاحتفاظ بالصورة التي كان عليها هذا العالم ذات مرة. وهي تعتقد بأنها تستطيع من خلال القوة الإبقاء على مد المساءلة بعيداً عنها في المناطق الفلسطينية المحتلة.
لم يكن هناك أي اعتراف بالذنب، ولم يكن هناك أي بحث عن الجنود المذنبين ولا إعادة تقييم لسياساتها في السيطرة على الحشود أو استخدام الذخيرة لاحية –ناهيك عن الاستمرار في الاحتلال جملة وتفصيلاً. وبدلاً من ذلك، وصل 20 جندياً في الأسبوع الماضي إلى ورشة النجارة في بيتونيا، وهددوا بإحراقها، واعتقلوا صاحبها، فاخر زايد، وأمروه بإزالة الكاميرا التي تسببت بكل هذا القدر الكبير من الإحراج.
وفقاً لإسرائيل، لا يقع الخطأ في مجتمع يستطيع فيه جنود مراهقون اختيار إطلاق النار على فتى فلسطيني وقتله ببرود كما لو كان ذبابة. إن المشكلة هي في صاحب المحل الفلسطيني، الذي افترض أنه يستطيع الالتحاق بركب العالم الحديث واستخدام معدات متطورة.
الحنين إلى “العصر الذهبي” للاحتلال كان واضحاً أيضاً في الأسبوع قبل الماضي من خلال تغيير في السياسة. فقد قامت إسرائيل باعتقال مئات من الفلسطينيين في محاولة البحث عن ثلاثة مراهقين إسرائيليين مفقودين منذ 12 حزيران (يونيو). وظلت مدن فلسطينية، مثل الخليل، تحت الإغلاق لعدة أيام، وقتل عدد من الشباب الفلسطينيين، بينما يقوم الجنود بتمشيط الضفة الغربية. لكنه عندما لم يثمر البحث الإسرائيلي عن أي نتيجة، وافق المدعي العام الإسرائيلي على إعادة العمل بإجراء “القنبلة الموقوتة” سيئ السمعة مرة أخرى.
بعمله ذلك، يكون المدعي العام قد أعاد عقارب الساعة خمسة عشر عاماً إلى الوراء، إلى الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تستخدم التعذيب بشكل روتيني ضد السجناء. وربما لم تكن إسرائيل وحيدة في استخدام التعذيب، لكنها كانت استثنائية في التباهي بقلاع تعذيبها المحصنة إلى جانب استمرار مزاعم التزامها بالسلوك الديمقراطي.
فقط في العام 1999، قامت المحكمة العليا في البلاد بالحد بشكل كبير من هذه الممارسة، وسمحت بالتحقيقات على هذا النحو مع اسثناء واحد فقط –يمكن تعذيب المشتبه به فقط إذا كان قنبلة موقوتة، بمعنى أنه يخفي معلومات عن هجوم، والتي يمكن أن يؤدي استخراجها الفوري إلى إنقاذ أرواح.
الآن، وافق رؤساء القانون الإسرائيلي على أن الساسة الفلسطينيين، والصحفيين والناشطين الذين جرى تجميعهم في حملة الاعتقالات الجماعية الأخيرة سوف يعاملون على أنهم “قنابل موقوتة”. وهكذا، عادات زنانين التعذيب الإسرائيلية إلى العمل مرة أخرى. وتم خداع الإسرائيليين إلى الاعتقاد بشعور زائف بالأمان، عن طريق تقديم الوعد بحلول تقنية بسيطة وبلا نهاية للمشاكل التي لا تكف عن التراكم، والتي يتسبب بها الاحتلال.
في الأسبوع قبل الماضي، أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن أمله بالعثور على “معالجة” أخرى للفلسطينيين الذين يرفضون البقاء منبطحين في وجه الظلم والاضطهاد الموجهين إليهم. ويسابق نتنياهو من خلال فرض قانون يجيز الإطعام الإجباري لأكثر من 100 سجين فلسطيني، والذين يستمرون في إضراب مفتوح عن الطعام منذ شهرين. ويطالب السجناء بأن تضع إسرائيل نهاية للمارسة الشائعة المتمثلة في احتجاز المعتقلين لأشهر، وأحياناً لسنوات، من دون توجيه أي تهم إليهم، فيما يوصف من باب التخفيف المتملق بأنه “اعتقال إداري”.
مثل هؤلاء السجناء، الذين يجهلون ما جريمتهم، غير قادرين على تقديم دفاع عن أنفسهم. وبينما يبدو من الأوضح باطراد للمجتمع الفلسطيني أن إسرائيل لن تقوم أبداً بالسماح للفلسطينيين بإقامة دولة، فإن الأشياء التي كان يجري التسامح معها بالكاد ذات مرة أصبحت الآن لا تطاق. وفي الأيام الأخيرة، حث رؤساء الجمعية الطبية العالمية إسرائيل على وقف العمل بالقانون المذكور، والذي سوف يطلب من الأطباء من خلال مشروع قانون مزدوج للإكراه بالتعامل بسادية وإطعام السجناء قسراً من أجل كسر إضرابهم عن الطعام. وقد وصفت الجمعية الطبية العالمية هذه الممارسة بأنها “ترقى إلى مستوى التعذيب”. ولا ينتهك قانون الإطعام القسري الحرية الشخصية للسجين، وإنما القسم الذي يؤديه الأطباء والذي يقضي بأن يعملوا لصالح ومنفعة مرضاهم.
في هذا السياق، حذرت صحيفة “هآرتس” الليبرالية من أن إسرائيل إنما تندفع بتهور في اتجاه “هاوية جديدة فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان”. وكل هذا لمنع الواقع من وخز الضمير الإسرائيلي: حيث أن الفلسطينيين يفضلون المغامرة بالموت على أن يحتملوا الإهانات المستمرة التي يرتبها العيش تحت احتلال عسكري وحشي.
لكنه ما يزال على الإسرائيليين إدراك أن السد سرعان ما سينهار. إنهم ما يزالون يعتقدون بأن إصلاحاً تقنياً هو الطريق لحل المعضلات الأخلاقية التي ينتجها بلا توقف أطول احتلال في العصور الحديثة. ويمكن أن تعمل الحلول التقنية الإسرائيلية إلى حد ما. إنها تستطيع أن تقيد الفلسطينيين وتحصرهم في فضاءات تصغير باطراد: سجن غزة الكبير، المدينة تحت الإغلاق، زنزانة التعذيب، أو الجراحة الطبية حيث يمكن إدخال أنبوب تغذية في المعدة.
لكن الرغبة الأكيدة في تقرير المصير والكرامة هي أكثر من مجرد مشكلات تقنية. إنك لا تستطيع أن تطعم الناس بالقوة حتى تهدئ جوعهم الهائل للحرية. ولن تفعل الاحتلالات العسكرية –خاصة تلك التي لا يكون ثمة أمل في نهايتها منظوراً في الأفق- سوى توليد أشكال إبداعية ومكلفة لا نهاية لها من المقاومة، كما يبين أسلوب الإضراب عن الطعام. وقد ي مكن إحباط شكل مادي من المقاومة بشكل مؤقت، لكن الروح الكامنة وراء ذلك لا يمكن إخضاعها بتلك السهولة.
جوناثان كوك * – (ميدل إيست أونلاين)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
*صحفي حائز على جائزة مارتا جيلهورن للصحافة. آخر كتبه هو “إسرائيل وصراع الحضارات: العراق، إيران وخطة إعادة تشكيل الشرق الأوسط.” و”فلسطين المتلاشية: تجارب إسرائيل في البؤس الإنساني”.