إسرائيل وثمن العدوان على غزة … بقلم: د. صالح عبد الرحمن المانع

2014/09/06
Updated 2014/09/06 at 9:56 صباحًا

images

أثّرت الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة بشكل كبير على صورة إسرائيل في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وحتى بين اليهود الغربيين أنفسهم. ففي مسح للرأي العام العالمي، أُخذ قبيل الحرب على غزة من قِبل شبكة BBC البريطانية، وجدت هذه الشبكة أنّ حوالي 50% من المستجوَبين حول العالم، ينظرون نظرة سلبية إلى إسرائيل، وأنّ هذه النسبة هي أدنى من النسبة التي حصلت عليها روسيا تحت قيادة بوتين، وهي أعلى بقليل من النسبتين اللتين حصلت عليهما كل من إيران وكوريا الشمالية.

أما في الولايات المتحدة، فقد أظهر الاستطلاع أن حوالي 62% من المستَجوَبين الأميركيين ما زالوا ينظرون نظرة إيجابية إلى إسرائيل. وفي شرق أوروبا، تصل النسبة إلى 34%، أما في بلدان غرب أوروبا فتصل النسبة إلى 24%.

وتتخوف إسرائيل من أنّ نظرة الشباب الأميركيين نحو إسرائيل قد تغيّرت بعض الشيء، وبدأت الغمامة تزول عن الدولة التي كانت تدّعي أنها الضحية، فأصبح العالم يرى فيها الجلاد على حقيقته. فنسبة (51%) من الشباب الأميركي يرى أنّ حرب إسرائيل ضد قطاع غزة هي حرب غير شرعية، خاصة في ضوء الصور المحزنة للأطفال الأربعة الذين قُتلوا وهم يلعبون على شاطئ غزة، أو للمدينة التي أصبحت خراباً يباباً، وذكّرت العالم بمآسي الحرب العالمية الثانية، وقد دُمِّرت غزة مثلما دُمِّرت مدينة «درسدن» الألمانية خلال تلك الحرب.

وإسرائيل التي تعيش على ضرائب المواطن الأميركي، وتحصل على مساعدات ضخمة من أوروبا، تخشى من تطوّر توجهات الرأي العام ضدّها في هذه الدول. وهي تراقب عن كثب تطورات الرأي العام هناك منذ عام 1967، وحتى الوقت الحاضر، ويمكن الحصول على هذه المعلومات من موقعٍ قريب من الوكالة اليهودية، يُسمّي نفسه بالمكتبة الإلكترونية اليهودية.

وقد دعت هذه التطورات حكومة نتنياهو عقب توقّف حربها على غزة، إلى اعتماد مبلغ 100 مليون شيكل (28 مليون دولار) كمبالغ إضافية للإعلام الخارجي تُضاف إلى ميزانية وزارة الخارجية الإسرائيلية لتحسين صورة ذلك الكيان.

غير أنّ ما يزعج إسرائيل هو موقف المثقفين اليهود في الولايات المتحدة من الحرب ضد غزة. فقد سبّبت لهم هذه الحرب أزمة أخلاقية عميقة، وهم الذين طالما نظروا إلى أنفسهم على أنهم ينتصرون للمظلومين في جميع أنحاء العالم، ومنهم الفلسطينيون.

غير أنّهم سرعان ما يغيّرون تعاطفهم خلال حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين أنفسهم. وكان هناك صراع دائم بين المثقفين الليبراليين اليهود، وأقرانهم من المحافظين. وكان المحافظون اليهود يشنّون حملات شنيعة على إخوانهم من الليبراليين، ويسكّتون احتجاجاتهم. فقد شنّت عالمة الاجتماع الأميركية الشهيرة «حنّا أرندت» حملة ضد اليهود الليبراليين في عام 1948، وأسكتتهم باعتبار انتقاداتهم للدولة الصهيونية تعيق إجلاء المواطنين الفلسطينيين من أراضيهم وتكوين الدولة اليهودية، فلا صوت يعلو فوق صوت البندقية!

وخلال الحرب الأخيرة ضد غزة، تراجعت مواقف بعض المنظمات اليهودية مثل (J Street)، وأصبحت تدعم الموقف الإسرائيلي بينما كانت تنتقده خلال حرب عام 2009. أما منظمات يسارية أخرى تمثّل اليهود في الولايات المتحدة، مثل «الصوت اليهودي للسلام» (JVP)، فقد دانت هذا الغزو، وطالبت باستمرار حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات، وتطبيق العقوبات بحق إسرائيل، كدولة معتدية.

وما يزعج المثقف اليهودي الليبرالي ليس العنف المتزايد فحسب للدولة اليهودية، بقدر تحوّلها إلى دولة بوليسية تقمع الحريات العامة. ويضربون على ذلك مثلاً بتعليق عضوية حنين الزعبي العضو الفلسطيني في البرلمان الإسرائيلي التي احتجّت وتظاهرت بقوة ضد الحرب، وهو ما دعا البرلمان الإسرائيلي إلى معاقبتها وتعليق عضويتها لمدة ستة أشهر، مثلما سجن 500 متظاهر آخر.

وتعجّ المجلات الثقافية الأميركية هذه الأيام بمقالات تنتقد الذات والموقف السياسي، من مثقفين يهود ليبراليين. فها هي «ميشيل جولدبرج» في مجلة الأمة The Nation، تنادي بموت الليبرالية الصهيونية، وترى أنّ وجود مثل هذه الليبرالية هو وهمٌ وقمةٌ في التناقض بين حركة قومية توسّعية تقوم على بناء المستوطنات والاستحواذ على الأرض، وبين القيم الليبرالية في الحق والوقوف مع المظلوم. وهي تصف سياسات نتنياهو بأنها سياسات «الظالمين في وارسو»، كناية عن المذابح في الحرب العالمية الثانية. وتنادي بأن يقذف المثقف اليهودي بعضوية المنظمة الصهيونية العالمية في اليمّ، ويستبدلها بعضوية إنسانية جديدة. غير أن مثل هذا الحديث الجميل لا ينطوي على اعتراف كامل بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، بقدر الحديث عن حقوق ثقافية للأقلية الفلسطينية تحت الاحتلال الذين من الصعب عليهم في الوقت الحاضر -كما تقول- تحقيق حلم قيام الدولتين على أرض فلسطين التاريخية.

وها هو المفكر اليهودي الليبرالي البريطاني «أنطوني ليرمان» ينشر مؤخراً مقالاً في «نيويورك تايمز»، يرى فيه أنّ حلم المثقف اليهودي في الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتكون أكثر ليبرالية وأن يؤثر هذا على سياساتها التوسعية، قد انتهى. وأنّ هذا الحلم لم يعد إلا قائماً، بعد أن أصبحت إسرائيل دولة دينية يمينية توسّعية. وهو إذْ يربط موت مفاوضات السلام الفلسطينية- الإسرائيلية بنهاية الليبرالية الصهيونية، يرى أنّ على المثقفين اليهود في العالم أن يروا حقيقة إسرائيل، وألاّ يتعاموا عن هذه الحقيقة.

وتصل هذه الرؤية إلى قمّتها حين يدعو عالم الاجتماع اليهودي الهولندي، الناجي من المحرقة «الهولوكوست» بيتر كوهين، إلى نهاية المشروع الصهيوني الذي يراه مشروعاً استعمارياً فُرض على الشعب الفلسطيني الأصيل بمسلميه ويهوده ومسيحيه، وقد أجبر الفلسطينيين عن طريق القوة القاهرة على مغادرة بلادهم وأراضيهم. ولا يرى كوهين أملاً في السلام بين الفلسطينيين، أو أصحاب الأرض الأصليين، وبين الإسرائيليين المستعمرين. فالسلام عرفه الفلسطينيون منذ أمد طويل مع اليهود، ومع غيرهم، واستمرّ هذا الوضع طيلة الحكم العثماني للبلاد لأربعة قرون. ولا يمكن أن يكون السلام حقيقياً ما دام المستعمر يريد اقتلاع الفلسطيني من أرضه -والكلام لكوهين- إما بحد السيف أو حتى بإقناع الفلسطيني أن يبيع أرضه وبيته في الضفة الغربية، بمبلغ 500 ألف دولار لكل مواطن، بحيث يجبرونه على الرحيل.

وحين يناقش -بيتر كوهين- منطق الصهاينة في حقهم المزعوم في احتلال فلسطين، يشبّه هذا المنطق بمنطق المجرم الذي يبرر جريمته بما تعرّض له من عنف أثناء طفولته. فالجريمة في رأيه تبقى جريمة بغضّ النظر عن دوافعها ومسبباتها.

وحين يطرح كوهين ما يسمّيه بـ«المخرج»، لا يرى تهجير اليهود الإسرائيليين إلى خارج فلسطين، بل يتساءل لماذا لا يُعطى لهؤلاء اليهود الحق في العودة إلى البلاد الغربية والأوروبية، حيث يمكن أن يبنوا لهم ولأبنائهم مستقبلاً أفضل بكثير من وضعهم ومستقبلهم المبني على العنف والاستعمار والاحتلال في أرض فلسطين التاريخية.

والحقيقة أنّ هذه الطروحات الفكرية التي يطرحها بعض المثقفين الليبراليين اليهود تُظهر بوضوح الأزمة الأخلاقية والنفسية التي يعيشونها ويتأثرون بها جرّاء ما يحدث من حرب وابتلاع للأرض والحقوق من قِبل الدولة الغازية.

عن الاتحاد الاماراتية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً