لا بدّ من التصارح. فالرؤوس تُقطع والدم يُراق والأرواح تُزهق والناس تُروّع وتُذلّ والبلاد تُضَيّع، والشرق يُسلب فلذة التنوّع أو ما تبقّى منها كعنوان لروحانيته وتسامحه وتعايشاته وآخر أمل في حضاريته. لا مجال للتراوغ اذاً، فالمسلمون متيقنون بأنهم مستهدفون في دينهم تشويهاً وشيطنةً وأدلجةً وأن أعداءهم منهم وفيهم بمقدار ما هم خارجيون، والمسيحيون وغيرهم من الأقليات يشعرون بأنهم يُسقَطون اسقاطاً من معادلة الشرق «الجديد» لجعله معزلاً مغلقاً، وأن العهود الاسلامية القديمة تلاشت تحت وطأة خطر «اسلامي» محدق أيضاً بالمسلمين أنفسهم، أما الضمانات الغربية الأقل قِدَماً فتبدو كما لو أنها تبخّرت، فلا جهة في المجتمع الدولي اليوم تعتبر حماية المسيحيين من أولوياتها. أصبح مصيرهم في معمعة الصراع الدولي، الدائر باحتراب أهلي – طائفي بالوكالة، أن يكونوا الثمن، وأن يدفعوا هذا الثمن.
لم تكن المشكلة الرئيسة في أي بلد، لا في مصر ولا في سورية أو العراق أو فلسطين، أن هناك سكاناً زائدين، أن هناك مسيحيين وآخرين يطالبون باحترام حقوقهم وخصوصياتهم. بل كانت هناك أنظمة حكم مستبدة وفاسدة عاملت الجميع بالقمع وبالشدّة الدموية ولم تعترف بـ «مواطنية» أي من رعاياها، كما لم يسعفها استعلاؤها على الأعراف والأخلاقيات ولا تكوينها السياسي والعقائدي في إعلاء القانون فوق الجميع. ترد «الحال الفلسطينية» في هذا السياق لأن اسرائيل شكّلت تاريخياً – باعتمادها على الارهاب والمجازر واحتقار القانون الدولي وطرد السكان الى مخيمات اللجوء – النموذج الأول في المنطقة للأنظمة التي نشأت تباعاً في المشرق العربي وراحت تتجذّر في التطرّف، الى أن أجبرتها هزائمها العسكرية على توسّل الدعم الغربي لبقائها وقد نالته بشروط مركّبة ومتداخلة خلخلت «شرعيتها» إن وُجدت أصلاً، اذ كان تحصين وجود الدولة العبرية وأمنها أول هذه الشروط.
كانت تلك الثغرة التي بحث تيار الاسلام السياسي عنها طوال عقود، فراح يطرح نفسه كبديل داخلي (ضد الأنظمة المستبدّة لكن أيضاً ضد اليسار العلماني) وقومي (ضد العدو الصهيوني) وإسلامي (ضد الشيوعية الملحدة)، ما أوجد تقاطعات مصالح دفعت الأنظمة أحياناً الى استمالة هذا التيار ضد معارضيها الآخرين، وأغرت رعاتها الغربيين أحياناً اخرى باستخدامه كما حصل في افغانستان، هناك حيث اختمرت البذرة الأولى للإرهاب الخاص الذي انتج تنظيمات كان «القاعدة» رائدها المنظّم ثم أفرخت العشرات وصولاً الى «داعش». لكن قبل أن تتبلور تجربة «الأفغان العرب» في مشروع مغرق في الفوضوية والضبابية، كانت ايران الثورة سبقتهم بطرحها «تصدير الثورة» كمشروع هادف ومنظّم يتبنّى بل يتخطّى منطلقات «الأفغان العرب» وأهدافهم (ضد اميركا والغرب، وضد الأنظمة العربية)، مستخدماً بعض خططهم ومطوّراً أساليب اخرى (نسف السفارة الاميركية ومقار عسكرية غربية، أو خطف رهائن غربيين، في بيروت). كان العالم لا يتحدّث إلا عن «الارهاب الايراني» الذي صنّفه كثيرون بـ «الاسلامي» وأشار اليه البعض بـ «الشيعي» (طوال الثمانينات)، ثم تبدّلت الحال مع ظهور التنظيمات المنبثقة من المستنقع الأفغاني، اذ راح الارهاب الايراني يتمايز مستفيداً من أخطاء المشروع الآخر ومغامراته، وبعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة لم يعد «الارهاب الاسلامي» ايرانياً أو شيعياً، بل سنّياً. ثم أن حربي افغانستان والعراق أتاحتا لايران سبلاً جديدة غير متوقعة لتطوير مشروعها الذي ظهرت أهدافه ومعالمه أولاً في لبنان ثم في العراق وسورية وغزّة واليمن والبحرين وغيرها، معتمداً «مأسسة» الارهاب في ميليشيات مسلّحة أو فرق مدرّبة على أعمال العنف.
في سياق المواجهة بين الأنظمة والتيار الاسلامي استسهل الأخير استهداف الأقليات تحدياً للغرب وباعتبارها متمتعة بـ «حصانة» غربية. وعندما ضعفت تلك الأنظمة داخلياً ثم سقطت بشكل أو بآخر، بالغزو في العراق أو برفع الدعم الاميركي في مصر أو حتى بترك النظام السوري يقتل مواطنيه ويدمّر بلاده، لم يكن متوقعاً شيء آخر غير صعود الاسلاميين الى الحكم أو الى الواجهة. جاؤوا مستعجلين ومتعطشين الى السلطة التي لم يعرفوها ولم يخْبروها، وجاؤوا مدججين بحمولة عقائدية ثقيلة وبالية لا تفيد في ادارة الدول، ما حال دون رؤيتهم حقيقة مجتمعاتهم التي مرّت بالكثير من التحوّلات على مدى قرن كامل، وإذا كانت ترحّب بوجودهم في المشهد وبمساهماتهم الايجابية المحتملة في التغيير والاصلاح، إلا أنها ترفض اطروحاتهم الاجتماعية وتطبيقهم البدائي لما يعتبرونه «الاسلام». وبمعزل عن وصولهم الى السلطة عبر صناديق الاقتراع (العراق ومصر وتونس وفلسطين) أو محاولتهم التسلّط ولو بافتعال حرب أهلية (ليبيا واليمن)، فإن المشتَرَك بينهم، سنّة وشيعة، أنهم غير مؤهلين للحكم أو لقبول الآخر، وكونهم انتخبوا لم يمنعهم بحثهم عن «التمكين» من توسل الدعم الاميركي ايضاً.
لعل تجربة العراق التي امتدّت لثمانية أعوام تمثّل، أكثر من التجارب الاخرى، حالاً يمكن الحكم عليها بالقول إن الاسلاميين حققوا فشلاً ذريعاً، اذ اهتموا بـ «مشروعهم» أياً كانت مذاهبهم ومرجعياتهم، وأرادوا التأسيس من الصفر لإقصاء كل من كان قبلهم. ومنذ لحظة سقوط النظام السابق تعامل الحكام الجدد للعراق مع الأقليات ولا سيما المسيحيين باعتبارهم حلفاء لذلك النظام، واذا لم يتعمّدوا الاساءة اليهم علناً ومباشرةً، فإن التمييز والتهميش والإهمال كانت بمثابة ترخيص لاستهدافهم من الارهابيين ورميهم بين أنيابهم وتحت حوافرهم… لكن الأخطر والأهم أن هؤلاء الحكام دخلوا السرايات بعقول مثقلة بتقاليد عملهم سابقاً في المعارضة ولم يفطنوا الى أن عقلية الدولة ومسؤولياتها تحتّم عليهم اتخاذ موقف بالغ الوضوح والحزم ضد جماعات الارهاب والتطرّف والعنف وليس اعتبارها من زمالات النضال، لذلك عندما حان انكشاف فشلهم وسقوطهم لم يكن متوقعاً شيء آخر غير صعود الارهابيين الى الواجهة كبديل منهم.
لم يعش أقباط مصر حقبة أكثر سوءاً من العامين اللذين أعقبا ثورة 25 يناير 2011، فمنذ بوادر وصول الاسلاميين الى الحكم وحتى غداة تنحية الرئيس «الاخواني» تكررت الاعتداءات عليهم بوتيرة متسارعة قتلاً وتنكيلاً واحراقاً للكنائس وتحرضاً سافراً. اما في سورية حيث نصّب النظام نفسه حامياً للمسيحيين وسائر الأقليات لأن نواته المذهبية تأتي أساساً من النسيج الأقلوي، لكن جرائمه وأخطاءه وغباءاته عرّضتهم لمواقف لا يريدونها ولمواجهات لا يحبذونها ولأخطار ليسوا مضطرّين لها، فقد كانوا يجدون السبل للتعايش مع مَن في الحكم ومّن في المعارضة، وعلى رغم بطش النظام بالمعارضة، فإن هذه لم تستهدفهم لكونهم مسيحيين، غير أن تعاظم دور الارهاب الذي استورده النظام ورعاه فتك أولاً بالغالبية السنّية وثورتها وبات يرجّح مصائر المسيحيين بين الهجرة والتشرّد والذبح.
المصارحة المطلوبة هي داخل بيت المسلمين أنفسهم. فالعالم يقول إن ثمة مشكلة إما في الاسلام أو تحديداً في تطبيقاته، أو في فتاواه، أو حتى في «صمت» الدول العربية والاسلامية الذي شكا منه بيان لبطاركة الشرق بعد اجتماعهم الاسبوع الماضي في لبنان، اذ قال إنها «مدعوة الى اصدار فتوى دينية جامعة تحرّم تكفير الآخر الى أي دين أو مذهب أو معتقد انتمى». اللافت أكثر في ذلك البيان دعوته أيضاً الى «فصل الدين عن الدولة وقيام الدولة المدنية (حتى) لا يعود الدين يستولي على السياسة ولا السلطة السياسية توظّف الدين في خدمة مصالحها، ولا المنظومة الفقهية تسيطر على مقتضيات الحداثة». معلوم أن جهداً بذل ويبذل لتنظيم الإفتاء لكنه فقد فرصة النجاح، فالمؤسسة الدينية ظلّت طويلاً ضعيفة أمام كل ما يدّعي الاسلام مرجعية حتى علقت في فخ المجموعات الارهابية واستغلالها الدين تسويغاً لجرائمها. وإذا كان العاهل السعودي وجّه لوماً الى علماء الدين، فإن الواقع يُظهر أن «المؤسسة» لم تأتِ بأي موقف قوي وواضح في مواجهة خطاب «داعش» ولا الفظاعات التي ترتكبها ولا اقدام زعيمها على ادّعاء «الخلافة».
الحياة اللندنية