قبل كل شيء من المهم أن تتوقف الحرب، وأن نصل إلى تلك اللحظة التي يتم فيها بالفعل الحديث عن إعادة إعمار غزة، لأن الواقع حتى الآن لا ينبئ إلا بمزيد من التدمير والقتل، وأن غزة لا تزال تتنازعها مجموعة من الدول والقوى، من الصعب أن تتفق فيما بينها على شكل اليوم التالي للحرب. الحقيقة صعبة جدا، والمستقبل لا يزال غامضا، ما دامت الحرب مستمرة، وواشنطن التي بيديها الحل والربط، فإنها لا تزال تمنح تل أبيب ما تريده من الوقت وما تريده من سلاح ودعم، وهي لا تزال تمنح باقي الأطراف الوقت، ليمارس كل دوره، وأثناء كل ذلك ما زال العدوان الحربي الإسرائيلي يواصل تقطيع غزة إلى أشلاء.
المقال هذا سيفترض أنه قد تم التغلب على كل العقبات، واقتنعت إسرائيل أن حربها على قطاع غزة استنفدت أهدافها، وبالفعل بات المجتمع الدولي مقتنعا بإيجاد الحلول، والمقال سيفترض أيضا أن القطاع قد بقي جغرافيا وسكانيا على حاله، دون تقسيم أو تهجير، لو بات كل هذا الافتراض واقعا، فإن شرط النجاح الأول: أن ترتبط عملية إعادة الإعمار بعملية سلام شاملة، على أساس المبادرة العربية، والتي جوهرها إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، مقابل السلام الشامل، بمعنى أن تكون عملية إعمار غزة ضمن هدف تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
الشرط الثاني: أن تتكرس وحدانية القرار الوطني، وأن تتعزز الوحدة الوطنية على نحو شامل تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، بمعنى إنهاء كل أشكال الانقسام، في إطار نظام سياسي متماسك، ويعمل على أساس ديمقراطي. أما الشرط الثالث: أن تكف الأطراف الإقليمية عن التدخل في الشأن الفلسطيني الداخل، وتقاسم النفوذ داخل الساحة الفلسطينية ومحاولة خطف القرار الوطني المستقل، ما نحتاجه حقا هو التضامن لا التدخل، خصوصا أننا شاهدنا إلى أين أوصلتنا التدخلات الخارجية وخاصة رعايتها للانقسام لأجل إضعاف الشرعية الوطنية الفلسطينية.
ويأتي الشرط الرابع: وهو توفير المال اللازم لإعادة الإعمار وضمان تدفقه بشكل منتظم، خصوصا أن كل مخطط السلام الشامل يعتمد أساسا على نجاح عملية الإعمار، وتمكن الدولة الفلسطينية من تحقيق وجودها العملي والقادر على النهوض والبناء، وسيكون ذلك ممكنا خصوصا إذا ما استعادت حقها في حقل الغاز المكتشف قبالة شواطئ غزة لاستثماره على نحو ما يؤمن لها موازنة استثمارية ومنها إنشاء مشاريع سياحية ضخمة على سواحل غزة، ومناطق صناعية على أطراف المدن والبلدات، في الدولة، بالإضافة إلى تطوير الزراعة في كل متر من الأرض يصلح للزراعة.
وهناك شروط تتعلق بالمواطن ذاته، بمعنى مسؤوليات نتحملها نحن للنهوض بأجدى العلاقات الداخلية القائمة على الوضوح، والمبنية، على الحوار الديمقراطي، والاهتمام بتطوير التعليم، وجعله أكثر مواكبة مع العصر ومع تأسيس جيل يتحصن بالعلم والمعرفة، ويعزز وعيه بما يخدم أفكار النهوض والتطور، الأفكار المستقبلية، وليس الماضوية.
لا يمكن يمكن أن ينجح أي شيء إذا لم نكن محصنين من الدخل، ومحصن وعينا وهويتنا الوطنية، ومن هنا أهمية الاهتمام بالثقافة والفنون على مختلف أشكالها، ولعل الأهم أن تكون لدينا، المؤسسات الراعية للطاقات الإبداعية من حرفيين ومهندسين ومزارعين وصناعيين مهرة، ورسامين وموسيقيين وكتاب وشعراء وممثلين، ليكون الهدف في المحصلة تأسيس دولة عصرية حداثوية أكثر تطورا وانفتاحا، دولة تنهي المجتمع العشائري والاحتكام إلى قوانينه المخالفة لسيادة القانون. لا يمكن أن ننجح إلا بتكريس سلطة القانون واحترام الحقوق الأساسية للمواطن، ومن هنا تأتي أهمية أي منظومة قانونية نريد لبناء حياتنا ومجتمعنا ودولتنا؟
لتكن مسألة إعادة إعمار غزة فرصة لتمكين العطاء والإبداع في ذواتنا، لأن هذه الأخيرة هي الأهم، وهي الأساس في النجاح فإذا بقينا على حالنا الراهنة، ان نفلح بأي شيء، وهنا تأتي أهمية تطوير مناهج التربية والتعليم، لتكون موازية بالأهمية لإعادة الإعمار والبناء، لإن التعليم الجيد يحقق المجتمع المنتج بإنسان أكثر وعيا، وحرصا على تطوير حياته، لا تدميرها أو القبول بتدميرها تحت أي شعار كان.