اسطنبول / قد يكون من حسن حظ تركيا أن لا تُقرأ علاقاتها الحسنة مع اسرائيل إلا في معادلة المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية، بينما تفسر مراحل العداء بأنها مواقف أيديولوجية ومنافسات حزبية تحكمها الانتخابات الداخلية أكثر من غيرها، ومن هذه الشواهد الآنية استجابة الحكومة التركية بزعامة رجب طيب أردوغان للمطالب الإسرائيلية بإعادة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها، فقيل فيها الكثير قبل أن تنضج، حتى وصفها البعض بالتطبيع بين البلدين قبل توقيع أي اتفاق بينهما، وعلل ذلك بأن الغاية من عودة هذه العلاقات التطبيعية بين تركيا وإسرائيل أن تكون محور علاقات الشرق الأوسط الجديد كله، فأخذ البعض بتفسيرها ورسم خطوطها والحديث عن أهدافها.
وقد اعتبر البعض أن الهدف من موافقة حكومة العدالة والتنمية على إعادة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها – وان لم تتم بعد – أنها جاءت لإحداث توازن ضروري في المنطقة بعد أن أخذت إيران بتوسيع نفوذها في العراق وسوريا ولبنان، وبالأخص بعد أن فشلت الجهود التركية من تحقيق انتصار للثورة السورية بإسقاط بشار الأسد حليف إيران الاستراتيجي، وبعد أن أخذت المعارضة التركية تهدد مكانة حزب العدالة والتنمية في الشارع التركي بحجة تدميره للعلاقات الخارجية لتركيا على حساب مراهنات أيديولوجية ترتبط بمشاريع الإسلام السياسي الذي تسارع مع ثورات الربيع العربي، ولكنه لم ينجح كما تمناه أردوغان بحسب زعمهم، إثر انكساره في مصر والانقلاب على الاخوان المسلمين هناك، مما أضطر الحكومة التركية للتراجع عن مواقفها الحماسية أكثر من المواقف السياسية المعتدلة.
هذه القراءة تمت بمعلومات صحيحة ويتوقع أن تصل إلى نتائج صحيحة أيضاً، ولكنها لا تقيم العلاقة بين المعلومات الصحيحة أو المقدمات المنطقية والنتائج على قياس منطقي صحيح، وهو الأهم حتى تكون النتائج مبنية على المقدمات الصحيحة، فمن المعلومات الصحيحة هي أن حكومة العدالة والتنمية وافقت على المطالب الأمريكية بإحداث تقارب بين تركيا وإسرائيل، وأيضاً استجابت للمطالب الإسرائيلية الملحة لإنهاء أزمة التوتر الحالية إثر مهاجمة إسرائيل لسفينة مرمرة قبل أربع سنوات، ولكن لا بد من تذكر أن تركيا تتحدث عن عودة للعلاقات، فالعلاقات التركية الاسرائيلية بدأت من عام 1949، وفي ظروف دولية وإقليمية مضطربة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت تركيا بحاجة ماسة إلى أوروبا وأمريكا لأكثر من سبب، في مقدمتها رغبتها الحصول على مساعدات تقنية وتكنولوجية وصناعية وعسكرية وغيرها، وكذلك كانت هناك حاجة أوروبية وأمريكية أكبر لتركيا وموقعها الاستراتيجي كخط دفاع أول ضد الاتحاد السوفيتي، فكان من أولويات حلف الناتو أن تكون تركيا عضوا فيه، واستمرت هذه الحاجة في عقود الحرب الباردة.
في هذه العقود بقيت العلاقات التركية والإسرائيلية في حالة تحسن متزايد باضطراد وذلك لأن الحكم في تركيا كانت تديره المؤسسة العسكرية، وقد حققت تركيا مكاسب كثيرة من هذه العلاقات على مستوى علاقاتها مع أوروبا وامريكا، في وقت كان العالم العربي الناهض قوميا لا ينظر إلى تركيا بإيجابية تبعاً لقيام القومية العربية على معاداة التاريخ القريب للأتراك مع الدولة العثمانية، أي في اللحظة التي فتحت تركيا علاقاتها مع أوروبا وأمريكا وإسرائيل كانت أبواب الوطن العربي مغلقة أمامها من قبل الدول العربية، بينما كانت العلاقات التركية الإيرانية في حال أفضل أيام الشاه وقبل قيام الثورة الإسلامية عام 1979.
وكان قيام الثورة الإسلامية يتزامن مع قيام صحوة سياسية وديمقراطية في تركيا كانت توصف بأنها صحوة إسلامية بزعامة نجم الدين اربكان، مما جعل تركيا وتحت ضغوط شعبية تسعى إلى تحسين علاقاتها مع الجمهورية الاسلامية الإيرانية، وبالأخص في الجانب الاقتصادي، الذي كانت الحركة الإسلامية تراهن عليه لكسب ثقة الشعب التركي.
وكان لصعود حزب العدالة والتنمية أثر أكبر في تحسن العلاقات التركية الايرانية الاقتصادية حتى بلغ معدل التبادل التجاري بين البلدين نحو 22 مليار دولار، بينما لم يبلغ التعاون الاقتصادي التركي الاسرائيلي في أحسن أحواله إلى خمسة مليارات دولار، أي أن العلاقات التركية الايرانية قديمة الجذور ومتينة العلاقات السياسية وبشكل أقوى في المجالات الاقتصادية، فالعلاقات التركية الاسرائيلية لم تتأثر يوماً بالعلاقات التركية الايرانية ولا بالعكس، بينما تأثرت العلاقات التركية الاسرائيلية بسبب الهنجعية الاسرائيلية العدوانية في تعاملها مع حقوق الشعب الفلسطيني مرات عديدة، وهذه العلاقات تأثرت سلباً مع حكومات تركية عديدة قبل حكومة العدالة والتنمية، ولكن شن اسرائيل الحرب على قطاع غزة عام 2008 و2009 كان مؤلماً جداً على الشعب التركي، وقد وجد القنابل الفسفورية تتساقط على المدنيين العزل من أهل غزة وتقتل منهم المئات يومياً دون مبرر، بل لمجرد العدوان على الحكومة الشرعية فيها التي شكلتها حركة حماس بعد انتخابات ديمقراطية عام 2006، فالموقف التركي كان طبيعياً وملتزماً بين شعبين، وتحت واجبات الاخوة بينهما، والمساعدة الممكنة بينهما، وهذه المشاعر كانت متأججة في الشارع التركي مثلها مثل باقي شوارع دول العالم الإسلامي والحر، فلم يكن ممكناً أن تسكت الحكومة التركية على ما طالبها به الشعب التركي وهي حكومة منتخبة منه، والأقصى ما وقع مع سفينة مرمرة وسقوط تسعة شهداء فورا، ثم تبعهم شهيد عاشر قبل أيام.
عند ذلك جمدت تركيا العلاقات مع إسرائيل وسحبت سفيرها وطلبت مغادرة السفير الاسرائيلي من أنقرة، ووضعت ثلاثة شروط لعودة العلاقات مع اسرائيل، كلها ترتبط بالحادثة وأسبابها ونتائجها، من اعتذار وتعويضات ورفع الحصار عن غزة الذي كان سببا لخروج السفينة الى غزة. ولم يجر الحديث من أردوغان ووزراء حزب العدالة والتنمية عن عودة العلاقات مع اسرائيل إلا بعد تحقق هذه الشروط، بل يمكن القول بأن الموقف التركي من الضغط على اسرائيل أولاً، ومن مواصلة الاعتراف بالحكومة الفلسطينية في غزة، كان من الأسباب التي ساعدت على تحقيق المصالحة الفلسطينية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني مؤخراً، دون أن تكون ايران طرفاً في معادلات العلاقات التركية الاسرائيلية.
بينما كان توتر العلاقات مع ايران سياسياً بسبب الموقف الايراني في العراق أولاً بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 وما نتج عنه من اقامة كيان سياسي طائفي، عجز عن حفظ حقوق كافة مكونات الشعب العراقي بعدالة ومساواة، وقد زاد التوتر مع ايران بعد الدعم الايراني لبشار الاسد في حربه القاسية لقوى الثورة السورية، فايران عملت على رهان مخالف للرهان التركي لحل الأزمة السورية، فتركيا راهنت على الحل السلمي والحواري والتقاء المعارضة السورية مع النظام في بداية الازمة، بينما راهنت ايران مع روسيا على الحل الامني، فأدى الى مجازر وقتل مئات الالوف من الشعب السوري وتشريد الملايين منهم، دون أن تتمكن تركيا من تقديم أي مساعدة لهم باستثناء المساعدات الإنسانية أولاً باستقبال الفاريين في مخيمات لجوء، وتأمين مستلزمات مساعدة لمن تبقى منهم في داخل سوريا، وبالاخص على الحدود التركية السورية التي تمكن الثوار السوريون من السيطرة عليها، مما فرض على الحكومة التركية التعاطي مع الأزمة السورية بما تفرضه العلاقات الحدودية المشتعلة، ولكن دون تجاوز ما تسمح به القوانين الدولية، وبالأخص بعد التنسيق مع الاتحاد الاوروبي الذي ترتبط تركيا في علاقات سياسية وعسكرية معه منذ عقود، وليس بسبب الازمة السورية المتأخرة.
هذه المعلومات الصحيحة لا يترتب عنها منطقياً أن تعيد تركيا علاقاتها مع اسرائيل للوقوف في وجه إيران في المنطقة اولاً، وما يدفع هذا الاحتمال أيضاً هو ان ايران قد دخلت في مصاعب سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية بسبب موقفها بدعم النظام السوري، إضافة إلى متاعبها الداخلية بسبب الحصار الغربي والعالمي بسبب ملفها النووي، ولذلك سعت إيران لتحسين علاقاتها مع تركيا، سواء للقيام بدور وسيط إيجابي بين إيران وامريكا، أو لقيام تركيا بدور يساعد على حل الأزمة السورية، بعد فشل الحل الأمني الذي راهنت عليه إيران وروسيا. ومن هنا كانت رغبة تركيا في تحسين علاقاتها السياسية والاقتصادية مع ايران لا تقل عن اهمية عن اهتمامها بعودة العلاقات مع اسرائيل التي قام الرئيس الأمريكي أوباما بدور العراب لها، ومن طبيعة السياسة التركية ان ترحب بكل من يسعى لتحسين العلاقات معها، بل هي الأكثر مبادرة دائمة في تحسين العلاقات مع كل الدول، وعلى اساس هذه السياسة قامت سياسة صفر مشاكل منذ عقد من الزمان.
إن سياسة المحاور في تركيا تقوم على تقليل الخسائر والأعداء معاً، وعلى تكثير المكاسب والأصدقاء معاً، فتوتر العلاقات بين تركيا واسرائيل أثرت سلباً على الدولتين، وكذلك الحل الثنائي بين تركيا وإيران، ولذلك من المستبعد ان تكون عودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل على حساب سوء العلاقات التركية الايرانية، بل مؤشرات التعاون الاقتصادي تذهب إلى عكس ذلك، بل من الممكن ان يكون تحسن علاقات تركيا مع اسرائيل إذا سارت ضمن الشروط التركية يمكن ان تكون عاملاً إيجابياً في صالح إيران في علاقاتها مع الغرب أيضاً.
القدس العربي