قدّم الجنرال عاموس يادلين رئيس معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أحد أهم استخلاصات المعهد وذلك في افتتاح دورته السنوية السابعة فيما يخص المفاوضات والصراع مع الفلسطينيين . الجنرال يادلين يتوقع فشل المفاوضات وحتمية وصولها إلى طريقٍ مسدود، محملاً المسؤولية للفلسطينيين والإسرائيليين، فالفلسطينيون من وجهة نظره لم يحسموا أمرهم تجاه التسوية الإقليمية، ويرفضون الاعتراف بيهودية الدولة، ويتمسكون بحق العودة . لكنه في إشارته للمسؤولية الإسرائيلية لم يتطرق إلى جوانبها مطلقاً .
بالمعنى الفعلي فإن يادلين يتبنى وجهة نظر كثير من الإسرائيليين منهم تسيبي ليفني مسؤولة ملف المفاوضات في الحكومة الإسرائيلية. هؤلاء يحذرون من استمرار الوضع القائم، واستمرار السيطرة والاحتلال وسياسة تشجيع الاستيطان التي ستؤدي حتماً (مثلما يقولون) إلى القضاء على فرص حل الدولتين لصالح دولة واحدة تقضي على يهودية الدولة . إضافة إلى أن استمرار السيطرة على الفلسطينيين سيعمّق من عزلة إسرائيل ويزيد من حملة المقاطعة عليها ونزع شرعيتها .
يادلين يصل إلى استنتاج آخر: أنه وبرغم اتفاقه مع نتنياهو على أن تسوية الصراع مع الفلسطينيين لن ينهي التهديدات الشرق أوسطية الأمنية والسياسية التي تواجهها إسرائيل، لكنه يعتقد أن التقدم على المسار الفلسطيني سيعزز من وضع إسرائيل ويساعدها على التقدم في مواجهة التحديات الأخرى التي يقف في المقدمة منها التحدي الإيراني .
لكل ذلك يدعو يادلين حكومة نتنياهو إلى تبني خطة الانفصال عن الفلسطينيين، فهو يرى أن على إسرائيل في إطار هذه الخطة أن تنسحب من قرابة 85% من مساحة الضفة الغربية . الجنرال يرى في هذا الأمر خطة بديلة لفشل المفاوضات . هذه الخطة (وفقاً له) ستنقذ إسرائيل من مخاطر عديدة، في الوقت الذي يتوجب فيه أن تحافظ على مصالحها الحيوية، وتبقي فرصة واقعية على الأرض مستقبلاً لحل الدولتين .
لكن يادلين يعتقد أن الانفصال له سمعة سيئة لدى الجمهور الإسرائيلي (مثلما هاجم البعض الانسحاب من لبنان ومن قطاع غزة . لذلك فهو يقترح أن يكون الانفصال منسقاً مع الفلسطينيين ومع دولٍ أخرى ومؤسسات دولية وذلك حتى تستطيع إسرائيل جني أكبر الانجازات والفوائد من ذلك .
واقع الأمر أن هذه الخطة التي يقدمها الجنرال يادلين تتماهى مع الخطة التي كان قد تقدم بها الجنرال يادين بعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية مباشرةً، وهي تتماشى مع خطة وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق أبا إيبان، التي لا تزال مرجعاً سياسياً وأمنياً للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في القضية الفلسطينية . كان شارون هو القيادي الإسرائيلي الأول الذي قام بفكرة الانفصال عن الفلسطينيين في خطته الانطوائية الأولى (في قطاع غزة) ويقال إن شارون كان يمتلك خطة انطواء ثانية للانفصال عن الضفة الغربية .
وكان عازماً على تطبيقها لو استمر في الحكم، فقد أسس شارون لذلك عبر إقامة جدار الفصل، ولاحقاً أولمرت وموفاز سارا على نفس الطريق، خطة يادلين بدأت تلاقي قبولاً لدى البعض في اسرائيل وتحديداً بعض النخب السياسية والأكاديمية الحاكمة . الجنرال مثل كل قادة إسرائيل يسعى إلى التخلص من الكثافة السكانية الكبيرة في غالبية المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، بعد ضم أكبر قدر ممكن من الأرض الفلسطينية عام 1967 .
الخطة أيضاً وبطريق غير مباشرة تهدف إلى إعادة تموضع القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية كما حدث في قطاع غزة، هي شكل من أشكال الاحتلال، وتستمر في مصادرة الحقوق والحريات الفلسطينية ولكن بشكل يخلص إسرائيل من أعباء الاحتلال المباشر ومن ثمنه، بالشكل الذي يريح إسرائيل أيضاً على مستوى الأمن والسمعة، ويقطع الطريق فعلياً على تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على كل الأراضي المحتلة عام 67 وعاصمتها القدس، ويفتح ربما لاحقاً خيارات إقليمية أخرى .
بالمعنى الفعلي فإن خطة يادلين قديمة ويجري إلباسها ثوباً جديداً وهي تعبير عن استمرار عقلية الاحتلال حتى فيما يسمى ب”معسكر السلام” وفي الشارع الإسرائيلي والنخب الأكاديمية والحاكمة .
فيما يتعلق بإمكانية تطبيق خطة الانفصال هذه على أرض الواقع فهي تصل إلى مستوى الاستحالة لأسباب عديدة أبرزها:
أولاً: إن أطراف الائتلاف الحكومي الاسرائيلي الحاكم من غلاة المستوطنين المتطرفين، ومعظم الأطراف لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني من الأساس، وهي تنادي ب”أرض إسرائيل التاريخية من النهر إلى البحر”، وجزء كبير من هذه الأطراف تنادي بدولة إسرائيل الكبرى . والقدس بالنسبة لكل ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي هي “العاصمة الأبدية والموحدة” لاسرائيل.
ثانياً: ما زال الاستيطان في الضفة الغربية قائماً ومتسارعاً . وهناك التوسع الاستيطاني والمعبر عنه بآلاف الوحدات السكنية الجديدة التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية والتي ستقرها مستقبلاً . خطة الانفصال تعني وقف الاستيطان عند حدوده الحالية وهذا ما لا يريده الجانب الاسرائيلي لا حالياً ولا في المدى المنظور .
ثالثاً: النظرة الاحتلالية بالنسبة لغزة مختلفة عنها للضفة الغربية، فالقطاع نظراً لكثافته السكانية الكبيرة لا يشكل مطلباً احتلالياً مباشراً، فقد تمنى رابين أن يصحو يوماً “ويكون البحر قد ابتلع غزة” . أما الضفة الغربية فهي بالنسبة للاسرائيليين المنطقة التي لا يمكن التخلي عنها، فجبالها ومرتفعاتها ضرورية “لأمن إسرائيل” ولذلك فإن أحد الاشتراطات الإسرائيلية للتسوية مع الفلسطينيين بقاء قوات الاحتلال في غور الأردن .
جملة القول: إن هناك تبايناً في الرأي في الشارع الإسرائيلي بشأن الانفصال الأحادي الجانب عن الضفة الغربية، لكن احتمالات تطبيق ذلك تكاد تكون مستحيلة..
القدس دوت كوم