كنت أظن أن الطائرات القاتلة من دون طيار تحلق صامتة بلا صوت، وأنها تكون غير مرئية عملياً –حتى أحصيت سبعة أجسام فضية تحوم على صفحة السماء الصيفية فوقي، وتئز بلا انتهاء مثل سرب من النحل الغاضب. وإذا كنت تظن أن كل المدافع تصدر نفس الصوت، وأن أي انفجار هو مثل الآخر، فإن سيمفونية الحرب التي لا تتوقف في غزة ستزودك بمعرفة مختلفة. سوف تتمكن من التمييز بين قصفات الرعد المتقطعة التي تميز القصف البحري، وبين الانفجار العميق والثابت الذي يخلفه القصف المدفعي.
سوف تعرف أن السينما الهوليوودية مخطئة، وأن القذائف لا تصدر صفيراً عندما تسقط –ونادراً ما ستسمع، بل وحتى ترى، الطائرة النفاثة المقاتلة التي تدمر المبنى في الشارع المجاور. في البداية، سيبدو لك أن هذا الانفجار الذي يهز العظام، وسحابة الفطر الصغيرة التي تظهر فوقه، قد نجما من اللامكان.
سوف تكتشف أن أفواج صواريخ حماس تقلع بصوت “وووش” مطول، تاركة خلفها آثاراً من الدخان الأبيض في السماء، وأن القنبلة الساقطة لا تنفجر بمجرد الارتطام، وإنما تحتفر لنفسها فجوة هائلة في وسط المبنى، وتشق طريقها تحطيماً بطريقة منهجية، عابرة طابقاً تلو الآخر، قبل أن تنفجر تحت الأساسات. ثم ستعرف أنه عندما يتمزق البشر وتنتزع أحشاؤهم، فإن الدم يسيل في الشارع.
أعرف من حروب سابقة أن للانفجارات قدرة هائلة على قلب الأشياء بشكل غريب. لكنه يظل من المفاجئ مع ذلك أن تمر على باب ما يزال صامداً وعلى قيد الحياة، ويقف متماسكاً وغير مبال فوق بحر من الأنقاض التي كانت بيتاً ذات مرة. وفي مشهد آخر للدمار، يستقر جهاز تلفاز جديد تحت جبل من الإسمنت الأبيض، من دون أن يصيبه خدش فيما يبدو؛ وفي الجوار، انقذف “بانيو” استحمام فوقاً إلى شرفة عالية، وجثم هناك قلِقاً فوق كومة من الركام.
مع ذلك، وبعد بضعة أيام تقضيها في غزة، سوف تتوقف عن الاندهاش والإحساس بالمفاجأة من اللاعادي. سوف يقام عشاء في الهواء الطلق على وقع الانفجارات. وسريعاً، ستتكيف عقلياً مع كل شيء سوى الانفجارات الأكثر صخباً ورعداً، تماماً مثلما لا يعود القاطن بجوار شارع ضاج بالحركة يكترث لأصوات حركة السير.
ولكن، ماذا لو كانت كل الانفجارات مرعدة؟ حدث ذلك صباح الثلاثاء عندما اندلع دوي يقسم الهواء، ويجعل القلب يقصف، ويهز الجدران فوق مدينة غزة من منتصف الليل حتى الخامسة والنصف صباحاً، بلا توقف تقريباً. في تلك الساعات، خالطني نفس الشعور الذي لا بد أن يكون قد أصاب لندن خلال غارات الحربين العالميتين.
سوف تتعلم في غزة، أكثر من أي شيء آخر، أن الصراع هنا مختلف جوهرياً –أكثر كثافة، أكثر تدميراً للروح، وأكثر خطورة على الناس العاديين- مما هو في أي مكان آخر في العالم.
لماذا؟ أولاً وقبل كل شيء، لأن غزة تعرض تجسيداً من الدرجة الأولى لمقولة أنك تستطيع أن تهرب، لكنك لا تستطيع أن تختبئ. في الحروب الأخرى التي كنت قد غطيتها، يقوم المدنيون الذين يجدون أنفسهم في طريق المعركة بجمع ما يحتاجونه ببساطة، وينتقلون. يمشون إلى بر الأمان، ويسافرون مبتعدين عن الخطر بالقدر الذي يحتاجون ذهابه.
في كانون الثاني (يناير)، كنت في دولة جنوب السودان في مستهل حرب البلد الأهلية. وعندما حوصرت بلدة بور وتعرضت للقصف، عبر معظم سكانها إلى الضفة البعيدة من نهر النيل الأبيض، وأقاموا مخيماً واسعاً للاجئين هناك.
كانت تلك رحلة خطيرة، وكانت الظروف التي تنتظرهم رهيبة. لكنهم كانوا آمنين عند وصولهم على الأقل. بمجرد أن أصبحوا على الضفة الغربية للنهر، أصبح صوت القصف المدفعي البعيد فقط هو الذي يذكر اللاجئين بالمخاطر التي هربوا منها.
لكنه ليس لدى 1.8 مليون شخص الذين يسكنون غزة مثل هذا الخيار. إن عالمهم كله ينحصر في مساحة 25 ميلاً طولاً وسبعة أميال عرضاً عند أعرض نقطة فيها –وكل موضع تقريباً في تلك البقعة الصغيرة أصبح تحت الهجوم. وبفضل الحصار الجزئي الذي فرضته إسرائيل ومصر، لا يستطيع سكان غزة المغادرة: ليست لديهم أي وسائل للفرار.
كان أقصى ما تستطيع العائلات فعله هو أن تلجأ إلى أقرب أملاك للأمم المتحدة، إلى مدرسة في العادة، وأن تأمل بحدوث الأفضل.
خلال الاثني عشر يوماً التي قضيتها في غزة، ارتفع عدد الناس النازحين بهذه الطريقة على قدم وساق وبلا توقف. عندما وصلت، كان نحو 30.000 لاجئ يحتمون في مقرات الأمم المتحدة؛ وبحلول يوم الجمعة، كان هذا المجموع قد ارتفع إلى قرابة 240.000 نسمة -أو 13 في المائة من سكان المنطقة بأكملهم. ولا يشمل هذا الرقم مئات من الناس الذين ينامون في العراء خارج مستشفى الشفاء في مدينة غزة، ولا عشرات الآلاف من الذين اكتظت بهم منازل أقاربهم.
ولنتذكر حقيقة أخرى: إن ما يقرب من نصف سكان غزة هم دون سن 18 عاماً. وهكذا، فإنه لا أحد يحارب في غزة من دون التسبب في تشويه وقتل وتشريد أو إرعاب جحافل من الأطفال. ليست هذه حملة تشَن في صحراء فارغة، أو جبل أو سهل مقفر -انسوا أمر العراق أو أفغانستان- وإنما هي معركة تخاض في أزقة ضيقة مزدحمة بالأطفال الرضع والأسر.
لذلك، عندما ترسل إسرائيل الجنود والدبابات إلى قطاع غزة، فإننا ينبغي أن نفهم ما يعنيه ذلك. قبل كل شيء، يتلقى سكان المنطقة المستهدفة أمراً بالمغادرة، يتم إرساله عبر رسالة صوتية، رسالة نصية أو منشور يهبط من السماء. وقد صادف أنني وصلت قبل بضع ساعات من بدء الغزو الإسرائيلي البري، وكان هناك نحو 100.000 شخص من بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا، يقعون تماماً وسط خط التقدم الإسرائيل المقصود، يتلقون مثل هذه التنبيهات.
تقول إسرائيل أن مكمن اهتمامها الأعلى هو الحفاظ على سلامة الناس: فقط عن طريق إفراغ مساحة تستطيع قواتها مقاتلة حماس فيها من دون قتل عدد متزايد من المدنيين. كما تقدم التحذيرات الإسرائيلية أيضاً تطمينات بأن الجميع سيتمكنون من العودة إلى منازلهم بمجرد انتهاء العملية.
لست أستنطق إخلاص الحجة الإسرائيلية، وأعترف بالمعضلة التي يواجهها قادتها الميدانيون. لكنني أريد أن أعرض ثلاث ملاحظات فقط:
الأولى، تنطبق أوامر الإخلاء المذكورة في الوقت الحاضر على كل شخص يتواجد داخل المنطقة العازلة التي تسيطر عليها إسرائيل، والتي تمتد لمسافة ميلين على طول الحدود الشمالية والشرقية لغزة. ويصل ذلك إلى 44 في المائة من مساحة أراضي السطح بأكملها. وهكذا، فإن ما يقرب من نصف مساحة غزة كان قد تم إخلاؤها عمداً -ولو مؤقتاً- من سكانها.
الثانية، برهنت الأحداث الحقيقة الصارخة التالية: لا يوجد أي مكان آمن في غزة. مرتان قصفت القوات الإسرائيلية مدارس الأمم المتحدة التي تؤوي النازحين في جباليا يوم الاربعاء، وقتلت 16 شخصا على الأقل، بمن فيهم أطفال وهم نائمون.
الثالثة: إذا كان قادة إسرائيل جادين في تهديدهم بتوسيع العملية البرية وإرسال جنودهم ودباباتهم أعمق في داخل غزة، فإنه سيتم إجبار المزيد من الفلسطينيين على الخروج من منازلهم. وإذا افترضنا أن إسرائيل قررت زيادة المساحة الخاضعة للسيطرة العسكرية من 44% إلى 50 أو 60% على سبيل المثال، فسوف ينتج كل شارع وكل مقطع سكني تحتله القوات الإسرائيلية آلافاً أخرى من اللاجئين.
إلى أين سيذهبون؟ إن كل مدرسة متوفرة للأمم المتحدة هي مكتظة بلاجئيها أصلاً. وأي نظام رث يوجد لإيواء اللاجئين، هو بكلمات الناطق المحلي باسم المتحدة، كريس غونيس، “ممتلئ عن آخره” و”عند نقطة الانهيار”. ولا يخالطنكم الخطأ: إذا صعدت إسرائيل هذه العملية أكثر مما هي الآن، فسيتم دفع سكان غزة وتجميعهم في جيوب للأمان المفترض، والتي تتقلص وتصبح أقل إمكانية للعيش باطراد.
أي سبب أو قضية يمكن أن تبرر هذه المعاناة؟ يقودنا هذا إلى السبب الثاني الذي يجعل مأساة غزة مختلفة. حتى بمقاييس كافة الحروب على مر العصور، تتميز هذه الحرب بأنها عبثية بطريقة متفردة.
إن إسرائيل، حسب روايتها الخاصة، لا تحارب من أجل تدمير حماس أو حل المشكلة الإنسانية والأمنية التي تشكلها غزة. كلا؛ إن الغرض من حملتها هو معاقبة الحركة الإسلامية الراديكالية على إطلاقها الصواريخ على المدن الإسرائيلية، وتدمير الأنفاق وتأخير اللحظة –لاحظ كلمة “تأخير”- التي تكون عندها حماس قادرة على استئناف إطلاق الصواريخ. ليس هذا صراعاً من أجل الفوز، وإنما من أجل كسب ميزة تكتيكية مؤقتة في حملة تتوقع إسرائيل أنها ستضطر إلى تكرارها، مرة وأخرى، في المستقبل إلى أجل غير مسمى.
وحماس؟ ليس المقصود من وابل صواريخها في المقام الأول حل مشكلة، وإنما تحقيق عزاء نفسي. على عشاء في منزلٍ فلسطيني في الأسبوع الماضي، غرقت انفجارات نيران المدفعية الإسرائيلي لفترة وجيزة في “وشيش” صواريخ حماس التي تطايرت من مكان قريب. وفي الشارع في الخارج، ارتفعت أصوات التصفير والهتافات. سألت: لماذا الابتهاج؟ لقد كانت الصواريخ بالتأكيد سبباً رئيسياً لكارثة غزة؟
قيل لي: إنك لا تفهم المسألة. إن الدول العربية لا تجرؤ كلها على إلقاء شيء بحجم كرة التنس على إسرائيل. لكن غزة –غزة، الفقيرة المعدمة المحاصرة- يمكنها أن تطلق 100 صاروخ في اليوم عليها. لا يهم أن “القبة الحديدية” نظام الدرع الصاروخي الإسرائيلي يقلل من الأضرار التي تسببها هذه الصواريخ. إن ما يهم هو فكرة إطلاقها في الأساس.
ينبغي أن أسارع إلى ذكر أن مضيفيّ لم يكونوا يشاركون هذا الرأي –إن الفلسطينيين يتحملون كابوسهم بشجاعة ورواقية هائلتين. وحتى في خضم الحرمان والإرهاب، يقومون بتحية زوارهم بكرامة وكياسة. لكنهم يظلون مع ذلك، عالقين في دوامة من المعاناة –دوامة ليست لها أي نهايات منظورة يمكن تمييزها.
*أصبح رئيس المراسلين الخارجيين في الديلي تلغراف في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011. عمل سابقاً محرراً دبلوماسياً للصحيفة، ومراسلاً لها من الشرق الأوسط وإفريقيا
الغد الأردنية