لم تمضِ ساعات طويلة بعد انتهاء مؤتمر باريس للإغاثة الإنسانية في غزة الا وأعلن الرئيس الفرنسي ماكرون بأن الدول المانحة في المؤتمر قد تعهدت بتوفير نحو مليار دولار لإعادة إعمار غزة. وقبل انعقاد المؤتمر بأيام، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي بايدن بأنها ستمنح 100 مليون دولار كمساعدات إنسانية للقطاع. ويبدو واضحاً أن الدول الغربية الكبرى تتعامل مع حرب غزة وكأنها قضية إنسانية، وليست قضية وقف إطلاق النار كإجراء مستعجل لوقت العدوان. لقد تناسوا جميعاً أن مسلسل الابادة الجماعية في القطاع إنما هو ناتج عن استمرار الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة وانعدام الأفق السياسي لأي تسوية عادلة. ليس هذا فقط، ففي الوقت الذي تعلن به الادارة الأمريكية عن توفير 100 مليون دولار للمساعدات الانسانية، فإنها تعلن عن منحها 14.3 مليار دولار لاسرائيل كموازنة طارئة لها.
عن أي مفارقة نتحدث؟ انهم يمنحون اسرائيل الأسلحة الفتاكة لتقتلنا بها، ثم يقومون بتوفير الفتات من المساعدات التي لم تصل الى الآن لنشتري بها الأدوية والأكفان. ما هذا الذي يحدث؟ إنهم يمنحون الرصاص أكثر. ولماذا؟ ربما لكي يبرروا مساعدتهم العسكرية السخية لاسرائيل! ربما لكي يبرروا لشعوبهم أنهم دول تراعي حقوق الانسان وتعمل على توفير الأدوية للشعب الفلسطيني الذي يتعرض للقتل والإبادة من خلال الأسلحة التي يزودون اسرائيل بها!
الإشكالية عندي ليست في تفسير حجم الأموال الضئيلة التي تمنحها الدول الغربية لجرحانا ومرضانا في الوقت الذي يمنحون إسرائيل كافة الأسلحة الفتاكة التي تقتل المدنيين. الاشكالية عندي تكمن في أن هذه المساعدات لا تتعامل معنا كشعب متحضر يتعرض للإبادة الجماعية أسوةً بكل الشعوب التي تتعرض للحروب. فلننظر جميعاً الى إجابات بعض من الأسئلة التي تشير الى واقع التمييز والعنصرية الغربية تجاهنا. ومن هذه الاسئلة:
هل سيخصص جزء من هذه المساعدات لكي توفر الدعم النفسي لأولئك الذين فقدوا أسرهم، واذا كان الأمر كذلك هل ستكفي هذه الاموال؟. هل سيخصص جزء من هذه المساعدات لتعويض النازحين من القطاع عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بهم نتيجة للعدوان الاسرائيلي على القطاع بما فيه نزوحهم عن بيوتهم؟. هل سيتم تعويض العائلات والأطفال الذين فقدوا أحد أفراد عائلتهم نتيجة للعدوان ؟
أعتقد أن الاجابة على الأسئلة الثلاثة السابقة هي بالنفي، فالفلسطينييون حسب القاموس الغربي اعتادوا على القتل والتنكيل والابادة والنزوح منذ أكثر من 75 عاما، وبالضرورة فهم لا يحتاجون الى برامج الدعم النفسي ولا الى التعويض، ربما لأنهم مشكلة يجب التخلص منها، ويكفي التعاطف معهم دون القيام بما يجب لعقاب المسؤولين عن الجرائم التي ترتكب ضدهم.
ويبقى السؤال المهم سواء تم التعويض أم لا، كيف سيتم تعويض الفلسطينيين عن فقدان الذاكرة المكانية التي تم تدميرها بسبب العدوان الاسرائيلي. هذه الذاكرة التي ارتبطت بالقرية والحي والأصدقاء والمنتديات والمؤسسات والشوارع وغيرها من الأحداث التي ارتبطت بالمكان وكونت الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية. لقد دُمّرت جميعها، وليس بمقدور مليارات الدولارات أن تستبدلها مرة أخرى!.
—————
* الأمين العام للحملة الأكاديمية الدولية لمناهضة الاحتلال والأبرتهايد الاسرائيلي