لم يكن قرار إبعاد الدول العربية لدولة قطر من المشاركة في المبادرة العربية الهادفة لإيجاد حلّ جذري ودائم لما يعانيه الشعب الفلسطيني في غزة، مجرد انفعال أو مواقف شخصية، بل استند على قراءة متأنية لطبيعة التدخلات القطرية السابقة، فالتدخل القطري في كل مكان يبدأ بشعارات الحل، وينتهي بتدمير البنى التحتية للأوطان، وإهانة وتشريد الشعوب، ودائماً ما يحمل معه صور الفوضى وانعدام الأمن وتضييع هوية البلدان، وتأجيج مشاعر العداء بين أبنائها، ودفعهم للتخاطب بلغة السلاح لا المنطق، وتمهيد كراسي السلطة لوصول التنظيمات الإرهابية الجهادية. وتدخل قطر في مفاوضات الوساطة وهي تحمل بين يديها دائماً أجندة تنظيم الإخوان المتأسلمين الذين لاقت منهم معظم الدول العربية مرارات لا حدود لها، وهو ما ثبت بالدليل القاطع في تدخلها عبر موجة «الجحيم العربي».
ولا يمكن إدخال قطر ضمن دول الوساطة بسبب لأنها وضعت نفسها سلفاً موضع الخصم، ويتعذر بأي حال أن يكون الخصم هو الحكم! فقطر ظلّت تؤجج مشاعر الرغبة في الانفلات وتشحن بها الغزّاويين عبر قناة «الجزيرة» تارة، وعبر التمويلات المشبوهة تارة أخرى، وحاكت العديد من المؤامرات التي أجهضت دائماً فرص التقارب بين فصيلي الشعب الفلسطيني المتمثلين في السلطة الوطنية كسلطة شرعية، وحركة «حماس» كسلطة متمردة مقالة، فهي إذن بالنسبة للشعب الفلسطيني تُعدُّ طرفاً من أطراف المشكلة. وفي الجانب الآخر الذي تمثّله إسرائيل، لاتزال قطر طرفاً في الصراع، فهي وإيران وقادة «الإخوان» المتكدّسين في الدوحة، يموّلون الحمساويين بالأسلحة والصواريخ التي يتم إطلاقها على إسرائيل، وفي الوقت ذاته لاتزال إسرائيل، رغم علاقتها السابقة بقطر، تنظر للدوحة كطرف احتضن أحد أبنائها، وهو عزمي بشارة، وأتاحت له منبراً، وقرّبته من دوائر الحكم، وربطته بقناة الفتنة التي تعتبر أقوى منابر شحن الرأي العام في غزّة، وبالتالي فهي لا تمثّل الطرف المناسب الذي يمكن اختياره ضمن لجنة عربية تسعى لإصلاح الأمر وعلاجه، وإنقاذ ما تبقى من أرواح مدنية لا صلة لها بالصراع، وإيقاف عبث سياسي يضرّ بالقضية الفلسطينية ولا يفيدها.
ولأول مرة تتفق كل الدول العربية المجتمعة لهذا الغرض على قرار واحد، هو استبعاد الدوحة، ضماناً لنجاح المبادرة، وكان السفير الفلسطيني من أقوى المؤيدين لقرار الاستبعاد الذي أعاد للأذهان التساؤل حول دور الدوحة المريب في القضية الفلسطينية، وعدم وجود تفسير منطقي للأسباب التي جعلتها تنفق أمولا طائلة في السنوات الماضية على بعض أطراف الشعب الفلسطيني، وتقويتها في مواجهة الأطراف الأخرى، بدلا عن تقويتها للوقوف في وجه إسرائيل، ورسمها للخطط التي تجعل بعض الأطراف تدخل في صراعات غير متكافئة مع إسرائيل، قصد تشتيت كل تقارب بين أبناء الشعب الفلسطيني.
لقد ساهمت تصرّفات قطر في عزلتها التي حاولت الهروب منها بصفقة السلاح الضخمة التي أبرمتها مع الولايات المتحدة في توقيت حير المراقبين. فقطر تتعرض الآن لضغوط دولية فضحت أمر حصولها على بطاقة تنظيم كأس العالم في كرة القدم بطرق ملتوية وغير نزيهة، إضافة لمشكلات العمالة التي استجلبتها لتشييد منشآت البطولة، وتسارع لجان التحقيق المنبثقة من «الفيفا» وغيرها لاستقصاء الحقائق، إضافة لـ«داعش» المدعومة من جانبها، والتي قضمت جزءاً كبيراً من أرض سوريا والعراق، وشكّلت تهديداً مباشراً لدول المنطقة، وكذلك احتضانها قادة الإرهاب الذين اختارتهم حينما تم تخييرها بينهم وبين أشقائها من شعوب الدول الخليجية، رغم علمها التام بأن هؤلاء الإرهابيين الذين أصّرت على احتضانهم، والتضحية بكل شيء من أجلهم، يضمرون شراً لدول مجلس التعاون، وأن مخططاتهم تبدأ بمنابرها، ويتم تمويلها من خزائنها.. ورغم ذلك تصرّ عليهم بطريقة غريبة، حتى لو كانت بداية الثمن سحب السفراء الثلاثة.
لقد أثبتت فعائل «داعش» وتهديداتها الصريحة لدول مجلس التعاون الخليجي، أن الإمارات والبحرين والسعودية كانت على حق حينما استشعرت الخطر مبكراً، وها هي ذا أكذوبة قطر المتمثلة في تكذيب مبررات الدول الثلاث في سحب السفراء تفضحها تهديدات «داعش» الممولة قطرياً والتي سارعت بتقديم تهديد طويل الأجل لقطر بعدما لاحظت العديد من وسائل الإعلام تهديد «داعش» لكل الدول عدا قطر، وحتى هذا التهديد جاء مهذباً وبفبركة واضحة، فـ«داعش» لم تهدد المنشآت التي تسارع الآن قطر في بنائها لاستضافة كأس العالم، ولم تهدد قطر أصلا، لكنها قامت بتهديد الفيفا، ولم توجه تهديداً للقطريين أو من يقيم بقطر، ولكنها حذرت الشعوب الغربية من التقاطر على قطر، وهو تهديد متناقض يخلط بين التلويح بمنع إقامة البطولة، والتهديد باستهدافها عند إقامتها، وهي بهذا التهديد الذي اعتقده البعض دليلا على عدم وفاء «داعش» لتعهداتها مع ممولتها، تبعث رسالة تطمينية لداعمتها قطر بأنه حتى موعد إقامة البطولة لن تعتدي على الدوحة، بدليل اعترافها الضمني في خطابها للفيفا بأن الأمور ليست بيديها، وبأن من سيتفاوض مع الفيفا حتى موعد إقامة كأس العالم 2022 هي حكومة قطر، وهو تطمين ضمني للفيفا جاء في شكل تهديد ظاهري، وهذه الطريقة في المخاطبة ورثها أبوبكر البغدادي عن معلمه بن لادن الذي أجبر الاستخبارات الغربية على التقاط إشارات أصابعه، وأبعاد الجمل في رسائله المصورة التي كانت تبثّها قناة الإخوان المتأسلمين في الدوحة. ولو صحّت هذه القراءة، فإن داعش تكون قد بعثت في رسالتها تطميناً مزدوجاً للدوحة والفيفا، بأنها لن تتعرض لتنظيم كأس العالم، وربما هي رسالة قطرية مبطّنة للفيفا، تحذرها من استمرار الخوض في التحقيقات التي جعلت الحلم يبدأ في التّسرّب من بين اليدين. وأيّا كان مضمون الرسالة، فإن حرص أبوبكر البغدادي على توجيه رسالة بخصوص كأس العالم الذي تفصل عنه سنوات عدة، وتقديمه على الأولويات الجهادية، وأوليات الواقع الراهن، يثير عدة تساؤلات، كما أن التهديد المباشر لكافة دول مجلس التعاون باستثناء قطر، يجعل الشعوب الخليجية تتساءل عن مصير العلاقة بين قطر ودول المجلس التي لازالت تمدّ حبال الصبر بعد سحب السفراء، وهو أمر يتطلب حمل الدوحة على الرجوع لصوابها، أو اليأس منها تماماً وبترها بتراً من نسيج تفاهمات المنطقة.
الاتحاد الاماراتية