أمد/ افتتح دينيس فرانسيس، رئيس الدورة الثامنة والسبعين، بالتحذير من أن احتمالية حدوث انفجار نووى الآن قد أصبحت أقرب من أى وقت مضى. ويرتبط هذا الوضع المثير للقلق جزئيًا بالصراع الدائر فى أوكرانيا وبالتوترات المتصاعدة بين العديد من الدول المسلحة نوويًا.
وقبل بضعة أسابيع فقط من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، ألقى أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، بيانًا مثيرًا للقلق هو الآخر، حيث ذكر أن دول العالم قد دخلت بالفعل فى مرحلة «الغليان العالمى» بسبب عدم اتخاذ خطوات كافية لمعالجة التداعيات السلبية لتغير المناخ.
توترات طال أمدها
فى خضم هذا السيناريو الحافل، أتابع وبقلق عميق انتشار واستمرار الصراعات فى جميع أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال تظل محنة الفلسطينيين فى حق تقرير المصير كما هى فى مواجهة تحديات جمّة مع استمرار احتلال الأراضى العربية منذ عام واشتعلت الأمور فى غزة ومازالت 1967. وكذلك ليبيا التى تعيش ظروفًا صعبة منذ ما يقرب من عقد من الزمان، حيث حذر المبعوث الخاص للأمم المتحدة بليبيا، عبدالله باثيلى، من أن الدولة تقف على حافة التفكك وأن استقرارها ووحدتها وهويتها معرضان للخطر. أضف إلى ذلك أن ليبيا أيضًا قد عانت مؤخرًا بشدة من كارثة طبيعية شديدة فى درنة. وبالمثل لا تزال الأزمات فى السودان وسوريا واليمن دون حل، علاوة على ذلك، هناك الأمن المائى والغذائى والصحى، تثير قلقًا بالغًا فى جميع أنحاء المنطقة.
فى الواقع فإن قارة إفريقيا بأكملها ليست بعيدة عن حالة الاضطراب المحتدمة حول العالم، حيث يؤدى الصراع على السلطة فى مختلف دول القارة السمراء إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها. فيلاحظ مثلًا أنه منذ عام 2020 شهدت عدة دول إفريقية كغينيا ومالى وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد والجابون حالة من عدم الاستقرار أدت إلى عواقب أمنية ضارة بالمنطقة برمتها على العديد من الدول الإفريقية حتى بعد تخلصها من الاستعمار.
تحديات النظام العالمى
تواجه الركائز الأساسية للنظام العالمى الحالى تحديات غير مسبوقة ذات شقين: الأول: يتمثل فى مسعى مشروع لتحقيق إصلاحات ترمى إلى تعزيز العدالة بين الدول ودعم مُثُل التعددية. والثانى ينبع من التوترات القائمة بين القوى الكبرى بالعالم، والتى تفاقمت بسبب الخطاب اللاذع والافتقار إلى حوار متوازن فيما بينها.
وهناك نقاش وثيق الصلة يرتبط بالتوسع المحتمل لمجموعة «البريكس» (BRICS). التى شكلت فى الأصل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، خلال فترة من النمو الاقتصادى. ورغبة فى تحقيق التوازن الجزئى فى ساحة التنافس بين قوى السوق الرأسمالى. ولذلك بعد توسيع عضوية مجموعة «البريكس» بضم كلٍ من: الإمارات العربية المتحدة، ومصر، والمملكة العربية السعودية، والأرجنتين، وإثيوبيا، وإيران، طرحت مجموعة كبيرة من الأسئلة والآراء، منها: هل ستصبح مجموعة «البريكس» نواة لنظام عالمى جديد لتصحيح السياسات وتدارك الهيمنة الاقتصادية الغربية؟ وهل من الممكن أن يوفر هذا التكتل عملة بديلة للدولار الأمريكى؟
وعلى الرغم من أننى أؤيد بقوة مجموعة «البريكس» وفكرة توسعها، فإننى أعتقد أن بعض التوقعات الخاصة بها مبالغ فيها، وتتغاضى عن تباين سياسات بعض أعضاء المجموعةُ. ومن الجدير بالذكر أن عددًا من القادة من الأعضاء الأصليين فى مجموعة «البريكس» قد انتقد علنًا مبادرة توسيع الكتلة، أو تقويض هيكلها الحالى. وإلى جانب ذلك، ففى حين أن زيادة التبادلات أو الاتفاقيات التجارية الثنائية بين أعضاء مجموعة «البريكس» قد يتطور فى المستقبل القريب، إلا أن التبنى الفورى لعملة جديدة تحل محل الدولار ليس على جدول أعمال المجموعة حاليًا، ولا يُعد حتى قيد النظر فى المستقبل القريب.
أجندة أممية متعددة
لقد كان جدول الأعمال متعدد الجوانب فى الجمعية العامة هو النقطة المحورية فى هذا التجمع. ويمر المجتمع الدولى بمرحلة تحول حادة، حيث يستجيب بشكل غير مناسب لتطلعات الكثيرين. وما يثير القلق ويزعزع الاستقرار بنفس القدر هو عدم كفاءة النظام الحالى، والذى يكافح من أجل الارتقاء إلى مستوى تحديات العصر. كانت هاتان السمتان واضحتين خلال دورة الجمعية العامةً، وهناكً حاجة إلى العلاج على وجه السرعة. وكما هو معتاد فإن حضور القادة الحكوميين لاجتماعات الخريف السنوية يوفر لهم فرصة عظيمة للتشاور بشأن القضايا العالمية المعقدة والصعبة.
كان موضوع الاجتماع لهذا العام معبرًا عن الاهتمامات العالمية بصورة كبيرة، حيث كان عنوانه «إعادة بناء الثقة وتحفيز التضامن العالمى: تسريع العمل بشأن خطة عام 2030 وأهدافها الخاصة بالتنمية المستدامة نحو السلام والازدهار والتقدم للجميع». وجاء تحت هذا العنوان حوارات رفيعة المستوى حول «تمويل التنمية»، و«الوقاية من الأوبئة والتأهب لها والقضاء عليها»، وكذلك حول «التغطية الصحية الشاملة». وكان هناك أيضًا اجتماع تحضيرى لقمة المستقبل، وقمة الطموح المتعلق بالمناخ، واجتماع بشأن مكافحة السُل، بالإضافة إلى اجتماع للاحتفال باليوم الدولى للإزالة الكاملة للأسلحة النووية والترويج له.
وهكذا فلا ينبغى إغفال هذه الموضوعات المحورية والاجتماعات ذات الأولوية. وقد تضمن جدول أعمال المجلس ولجانه العديد من القضايا الأخرى ويلاحظ غياب الموضوعات المتعلقة بمخاوف الأمن السياسى عن جدول أعمال المجلس، باستثناء جلسة للاحتفال باليوم الدولى لتعزيز إزالة الأسلحة النووية.
ومع ذلك، لا يسع المرء إلا أن يتساءل كيف لا يستطيع العالم إعطاء الأولوية لمناقشة: كيفية تهدئة التوترات بين الدول، ووقف الحرب المستمرة، وإنهاء الاحتلال الإقليمى، وإعطاء الحق فى تقرير المصير، والحد من ارتفاع مستوى التسلح المستمر والتخفيف من آثاره، وكبح الاتجاهات الجيوسياسية التى تهدد بزعزعة الاستقرار. ومن الأمور الملحة بنفس القدر الحاجة إلى تهدئة المواقف النووية وتعزيز نزع السلاح النووى. فى الواقع، أنا مندهش وقلق للغاية من الوضع الحالى.
غاب الحوار وحضر الصمت
قام رئيس الولايات المتحدة، جوزيف بايدن، فى اليوم الأول لانعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا إدانة شديدة، مكررًا من أن التقاعس عن اتخاذ إجراء رادع ضد موسكو إنما يمثل تهديدًا للمبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة. وبدلًا من إشعال المناقشات وردود الأفعال المتوقعة من زعماء العالم المختلفين من الحضور، فقد قوبل هذا الخطاب بصمت مثير للقلق، وهو رد فعل يعود تاريخه إلى الحرب الباردة.
ذات مرة عبر نيكيتا خروتشوف، السكرتير الأول للحزب الشيوعى بالاتحاد السوفيتى، عن استيائه من خلال الخبط بحذائه على الطاولة أثناء اجتماع للجمعية. وكذلك قام العدو اللدود لأمريكا الرئيس السابق لكوبا، فيدل كاسترو، بزيارة الأمم المتحدة أربع مرات وإلقاء أطول خطاب مسجل فى الجمعية العامة والذى دام لأكثر من أربع ساعات، وقد تزامن ذلك مع احتلال الولايات المتحدة لجوانتانامو. ومثال آخر هو للزعيم الفلسطينى، ياسر عرفات، الذى صعد إلى المنصة بحافظة فارغة وهو يحمل غصن زيتون، وحذر من أنه لا ينبغى للحضور أن يتركوه يسقط. وذهب الرئيس الفنزويلى السابق، هوجو تشافيز، إلى حد أن وصف فى خطابه الذى ألقاه فى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006 رئيس الولايات المتحدة بأنه «الشيطان». وبالطبع فمن المؤكد أن هناك العديد من الأحداث الأخرى الغريبة أوالمعيبة التى حدثت بين قادة الدول ممن ينتمون إلى مختلف جوانب الطيف السياسى. وبالتالى فالنقطة الأساسية التى تجدر الإشارة إليها هنا هى أن كافة الأصوات، بغض النظر عن علاقاتها بالولايات المتحدةً وتحظى بفرصة الحضور إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة والتحدث من خلالها. وكانت فرصة مهمة للمحاور ومشاورات خاصة بين الأصدقاء والأعداء على حد سواء.
إلا أنه للأسف كان ملحوظًا غياب الحوار فى أثناء وجودهم، أو كما قيل فإن «صوت الصمت» كان عاليًا بشكل ملحوظ. وكان رئيس الولايات المتحدة هو رئيس الدولة الوحيد الذى حضر من بين رؤساء الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن.
وهذه الصورة للأحداث ما هى إلا انعكاس صارخ ومنذر بالسوء للنموذج الدولى الحالى، فهى تشير إلى الدور غير الفعال للأمم المتحدة. لقد عاد أربعة من الخمسة أعضاء دائمى العضوية فى مجلس الأمن إلى لغة الحرب الباردة، بل وتوقعوا احتمالية استخدام أسلحة الدمار الشامل. لقد شهد مجلس الأمن، المنوط به مسؤولية الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، غياب معظم زعماء الدول الخمس دائمة العضوية، مما يشير إلى تضاؤل اعتمادهم على الأمم المتحدة باعتبارها مركز مشاركتهم الدولية. صحيح أن الصين والولايات المتحدة انخرطتا مؤخرًا فى محادثات ثنائية بناءة بين كبار المسؤولين فى مالطا، ولكن هذه المحادثات تعكس وتؤكد أولويات البلدين وتفضيلاتهم. إن حل الصراعات السياسية يتطلب التعاون بين الدول، ولا تستطيع الأمم المتحدة وحدها حل هذه الصراعات بالاعتماد فقط على وسائلها. إن الوقت قد حان للدبلوماسية المدعومة رفيعة المستوى لتُفعّل وتقدم دورها!
لقد انتقدت فى السابق الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش علنًا لعدم اتخاذه مواقف أكثر استباقية وعدم مشاركته بشكل كافٍ فى جهود حل النزاعات، ولايزال عدم رضاى عن مواقفه مستمرًا. ومع ذلك، فقد حذر جوتيريش بقوة فى كلمته الافتتاحية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة من أن «عملًا عظيمًا» من المنتظر تقديمه من قبل دول العالم، وأكد أن هناك حاجة ماسة للإصلاح فى ضوء الوقائع العالمية المعاصرة المختلفة. وتُعد هذه دعوة واضحة للتعددية، وآمل أن يكملها الأمين العام للأمم المتحدة بمقترحات ملموسة لتشجيع الدول أو حتى إجبارها على المشاركة الدبلوماسية الأكثر حزمًا. ومن الضرورى أن يتم تنشيط منظومة الأمم المتحدة بأصولها ومبادئها التوجيهية وإعادة صياغة معاييرها لتكون مرة أخرى الضوء المرشد للدبلوماسية، سواءً داخل هذا الكيان الموقر أم خارجه.
إننى أدعو الأمين العام للأمم المتحدة لاتخاذ ثلاث خطوات:
1- التعامل شخصيًا مع جميع قادة الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن فيما يتعلق بالتوترات والصراعات السياسية طويلة الأمد فيما بينهم.
2- إنشاء مجموعة محدودة، ممثلة جغرافيًا لمختلف الدول، تتكون من رجال الدولة على أعلى مستوى ممكن، مهمتها إشراك الأطراف المتنازعة بهدف حل النزاعات دبلوماسيًا.
3- إشراك كافة أعضاء مجلس الأمن ورؤساء المجموعات الإقليمية شخصيًا فى مناقشة أفضل السبل لتنشيط وتفعيل دور الأمم المتحدة فى عملية الإصلاح.
ومن خلال هذه الإجراءات المدروسة والمركزة فقط يمكننا أن نأمل فى اجتياز التيارات المحفوفة بالمخاطر فى المشهد الدولى الحالى والتوجه نحو مستقبل عالمى أكثر استقرارًا وأمنًا.