من غير المتوقع أن يتم العثور على حلّ ناجع للاحتجاجات الشعبية التي شهدتها الضفة الغربية في أيلول/ سبتمبر 2012، على خلفية ارتفاع الأسعار وتأخر صرف الرواتب، إلاّ في سياق حلٍّ وطني شامل. ويبدو أن مستقبل هذه الاحتجاجات مرتبط، بشكلٍ أو بآخر، بمستقبل تطورات “الربيع العربي” عموماً، وفي مصر وسورية على وجه الخصوص. إن حدة هذه الاحتجاجات قد تراجعت كثيراً، وهي غير مرشحة للتصاعد والاستمرار في المدى القريب؛ بالرغم من أنها أظهرت أن الوضع في الضفة الغربية هشٌّ وقابلٌ للانهيار بسرعة، وفي أي لحظة.
تعرض الشارع الفلسطيني، في الضفة الغربية، لموجة احتجاجات، شملت معظم القطاعات؛ الأمر الذي أدى إلى تعطل الحياة العامة، واضطر قيادة منظمة التحرير، باعتبارها مرجعية السلطة والمسؤولة عن سياساتها الاقتصادية وأدائها بشكل عام، للتلميح بإمكانية إقالة رئيس الحكومة وتغيير الطاقم الوزاري الحالي، والنظر في اتفاقية أوسلو Oslo Accords برمتها، ومراجعة بروتوكول باريس Paris Protocol التابع لها، ما يعني إمكانية عودة مسار التسوية السياسية إلى المربع الأول. إن ما تقدم، يزيد من أهمية قراءة هذه الاحتجاجات وأثرها على السلطة، وانعكاساتها على العلاقة مع الاحتلال، وعلى العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية.
الشارع الفلسطيني: لا يمكن إسقاط تأثير تردي الأحوال الاقتصادية في حدوث الاحتجاجات، بوصفها المفجّر الرئيسي، فقد استمرت وتعمقت أزمة العجز في موازنة السلطة، وتكرر تأخير صرف الرواتب، أو صرفها على دفعتين، وزادت حدة البطالة والفقر، وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، وتراجع الاستثمار الداخلي والخارجي، وارتفعت فاتورة الديون على السلطة، لدرجة تنذر بالخطر، إلاّ أن العامل الاقتصادي لا يكفي وحده لتفسير ما حدث وما يمكن أن يحدث.
إن المواطن الفلسطيني يعيش في هذه المرحلة تحت وطأة الاحتلال؛ الذي أطلق العنان لتنفيذ المخططات التوسعية والاستيطانية والعنصرية، خصوصاً في القدس، وشجع المستوطنين على مواصلة وتصعيد اعتداءاتهم بصورة غير مسبوقة. كما يعاني المواطن من وطأة فقدان أي أفق سياسي، ومن فشل جميع الجهود الرامية إلى إنجاز المصالحة الوطنية، وتلك الساعية إلى إحياء ما يسمى “عملية السلام” واستئناف المفاوضات؛ في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة الإسرائيلية سياسة “العصا والجزرة” مع السلطة، بهدف إعادة صياغتها، وإجبارها على القبول باستمرار الأمر الواقع، والاستجابة للشروط والإملاءات الإسرائيلية، حتى لو أدى ذلك إلى إسقاط رئيس السلطة أو استبداله. ويندرج في هذا السياق حملة الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان Avigdor Lieberman، على القيادة الفلسطينية، وتحديداً على الرئيس محمود عباس.
ومن جهة أخرى، لم تقدِّم حماس في الوقت الراهن بديلاً عملياً تقبله فتح، ويُخرج الفلسطينيين من دوامة اتفاقية أوسلو واستحقاقاتها، بل اضطرت إلى التعايش مع الواقع و”علّقت” المقاومة من قطاع غزة، وأعطت أولوية للحفاظ على سلطتها في القطاع وتعزيزها.
وفي هذا السياق فقط، يمكن أن نفهم ما جرى، فالعيش تحت شعور متزايد من القلق والغموض دون بديل استراتيجي شامل، حيث إن القيادة الفلسطينية والفصائل، دون استثناء، تتحدث عن البدائل دون أن تقوم ببنائها على أرض الواقع، وهو ما يبقيها جميعاً على الأرضية التي فرضها اتفاق أوسلو. فمستقبل السلطة غامض، وهي معرضة للانهيار في أي لحظة، والعلاقة بين أركانها (الرئيس وفتح من جهة ورئيس الحكومة من جهة أخرى) مضطربة. وانعكاسات “الربيع العربي” على المدى القريب، خصوصاً في ظلّ استمرار الانقسام، لم تُعط نتائجها المتوقعة حتى الآن؛ بل حدث نوع من التهميش للقضية الفلسطينية. أما سلطة حماس في غزة فهي ما تزال تحت الحصار، وتواجه احتمال العدوان الإسرائيلي؛ إذا لم تتخلى عن المقاومة، وصولاً إلى اعتماد شروط اللجنة الرباعية.
طبيعة الاحتجاجات:وإذا عدنا إلى الاحتجاجات، علينا أن نفرّق كيف بدأت، وإلى أين انتهت؟، فهي رفعت شعارات ضدّ الغلاء، وطالبت بتعديل اتفاقية باريس الاقتصادية، ورحيل حكومة سلام فياض، وكانت سلمية ومنضبطة في البداية، وانتهت، على الأقل في مواقع عديدة، إلى المطالبة بإلغاء اتفاقية أوسلو وبروتوكول باريس، ورحيل رئيس السلطة ورئيس حكومته، وشهدت اعتداءات على مؤسسات وممتلكات عامة وخاصة، ما أدى إلى مواجهة بين أفراد الشرطة والمتظاهرين، خصوصاً في الخليل ونابلس؛ أدت إلى سقوط 200 جريح من الطرفين.
حكومة فياض:وبعد تردد طويل من الحكومة في الاستجابة لمطالب المتظاهرين، خضعت بضغوط من فتح، واستجابت لبعض المطالب، من خلال التراجع عن رفع أسعار المحروقات، باستثناء البنزين، وخفض الضريبة المضافة إلى نسبة 15%، وتقليص النفقات الحكومية، وضبط الأسعار وتشديد الرقابة عليها، وفرض غرامات كبيرة على المخلين بها، وخصم 10% من الرواتب التي تزيد عن 4,500 شيكل (نحو 1,172 دولاراً)، على أن تسدد لاحقاً.
إن هذه القرارات تخفف من حدّة الأزمة، ولكنها لا تعالجها جوهرياً، ولا تضمن عدم تفاقمها مستقبلاً، إلاّ أن ما ساعد السلطة على ضبط الأوضاع هو مسارعة الحكومة الإسرائيلية إلى تحويل 250 مليون شيكل (حوالي 64 مليون دولار) من العائدات الجمركية التي تجمعها “إسرائيل” قبل موعدها، والمضي في سياسة تشغيل المزيد من العمال الفلسطينيين في “إسرائيل”، والشروع في كيفية تحسين آلية جمع العائدات من دون الاستعداد لتعديل اتفاقية باريس، أما مراجعتها باستمرار فهي مسألة مطروحة ومتضمنة في نصها الأصلي.
وما يمكن أن يساعد السلطة على تخفيف حدة أزمتها هو قيام المفوضية الأوروبية بتخصيص 100 مليون يورو (نحو 130 مليون دولار) على شكل مساعدة عاجلة للسلطة، وشروع الإدارة الأمريكية بإقناع الكونجرس بتحويل 200 مليون دولار كان قد تأخر تحويلها على خلفية الضغط على السلطة حتى لا تمضي قدماً في اتجاه مشروع اعتراف الأمم المتحدة United Nations بالدولة الفلسطينية أو المصالحة، إلاّ إذا جاءت وفقاً للشروط الأمريكية – الإسرائيلية؛ التي تتغطى بشروط اللجنة الرباعية الدولية Quartet.
جوهر الأزمة:من السهل تحميل سلام فياض وسياسته الاقتصادية الاستهلاكية والنيوليبرالية المنسجمة مع شروط ونصائح البنك الدولي World Bank، المسؤولية عن الأزمة المالية، وهذا صحيح، لأنها تتحمل هذه المسؤولية، ولكن الأزمة جذورها عميقة، ترجع إلى اتفاق أوسلو وملحقاته والتزاماته السياسية والاقتصادية والأمنية؛ التي وضعت السلطة في خدمة الاحتلال وجعلتها خاضعة له، خصوصاً في الجانب الاقتصادي، بالرغم من أنها من المفترض أن تكون خطوة مؤقتة تنتهي في أيار/ مايو 1999، وليس ترتيباً دائماً يعفي الاحتلال من مسؤولياته.
السيناريو المحتمل:تأسيساً على ما سبق، لا يوجد حلّ جذري للأزمة المالية إلاّ في سياق تطبيق توجه استراتيجي، يهدف إلى تجاوز المأزق الوطني الشامل الذي يعيشه الفلسطينيون على مختلف المستويات والأصعدة، الذي عنوانه الأبرز “اتفاق أوسلو”، وضرورة البحث عن بديل استراتيجي شامل له، وهو بديلٌ لا يستطيع أن يتحمل أعباءه طرف واحد، وإنما هو مسؤولية الجميع.
إن احتجاجات الشارع الفلسطيني غير مرشحة للتصاعد في المدى القريب، لأن تصاعدها يرتبط بمسائل عدّة، لا تنحصر بالعامل الاقتصادي بالرغم من أهميته، وإنما ترتبط بشكل وثيق بمسار المصالحة الفلسطينية، وبدرجة الضغوط التي تمارسها “إسرائيل” والتي لديها مصلحة كبيرة في دعم انهيار السلطة، وبالتطورات المحتملة في “الربيع العربي”، خصوصاً في مصر وسورية، وبتوجه المنظمة نحو تدويل القضية الفلسطينية، والمضي في ذلك أو التراجع عنه، والنجاح أو الفشل في الجهود الرامية لاستئناف المفاوضات الثنائية، التي تسعى الإدارة الأمريكية لاستئنافها.
إن ما يجعل هذا التقدير مُرجحاً هو:
أولاً: أن السلطة تمثل نقطة تتقاطع فيها مصالح أطراف فلسطينية وإسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية، ما يجعل انهيارها من دون بديل معقول أو ممكن قفزة نحو المجهول، لا يعرف أحدٌ تداعياتها ولا كيف يمكن السيطرة على الأوضاع التي توجدها.
ثانياً: حقيقةُ أن أوساطاً من حركة فتح، هي التي بادرت إلى قيادة هذه الاحتجاجات في البداية وبضوء أخضر من الرئيس، بدليل وصفه ما حدث أنه ربيع فلسطيني، إضافة إلى عدم تدخل الشرطة والأجهزة الأمنية لمنع المظاهرات، بل وفرت التسهيلات والحماية لها. ولعل ذلك كان على خلفية تحميل مسؤولية الأزمة المالية إلى السياسات التي اتبعتها حكومة سلام فياض، في محاولة جديدة لتسديد الحساب معه، خصوصاً أنه حرص في الأشهر الأخيرة على إظهار أنه يمثل طريقاً ثالثاً مختلفاً عن فتح وحماس؛ بدليل إعلان إمكانية خوضه الانتخابات القادمة إذا كانت لديه فرصة معقولة فيها، وانتقاده عدم استعداد فتح وحماس للانتخابات، وإبراز مواقف مختلفة عن سياسة الرئيس والمنظمة من المفاوضات والمصالحة وكيفية التعامل مع “إسرائيل”، كما ظهر من خلال عدة مسائل، أبرزها: عدم استعداده لتسليم رسالة من الرئيس إلى بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu، بالرغم من إعلان عباس بنفسه أن فياض سيسلمها؛ ودعوته لإجراء انتخابات عامة في الضفة الغربية.
المقترحات:
1. مطالبة قيادة منظمة التحرير وقيادة السلطة بالتماهي مع مطالب الجماهير، وإنهاء الدور الوظيفي للسلطة الذي يقوم بخدمة الاحتلال، والتركيز على التخلص من رِبقة الاحتلال، وامتلاك القوة الذاتية اللازمة لذلك.
2. إن على فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية إعطاء أولوية كبرى لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وتحديداً المنظمة والسلطة، وإعداد برنامج سياسي مشترك، والتخلي عن كل ما يحول دون إنجاز هذه المهمة.
3. لا يكمن حلّ الأزمة الاقتصادية الراهنة في مجرد تغيير شخص أو طاقم، مهما كانت قدرات الشخص أو الطاقم الجديد ومؤهلاته، وإنما يكمن الحلّ في مراجعة أسس الأزمة؛ التي اتفق المراقبون والمتخصصون وكذلك أصحاب القرار، على أنها تتمثل في اتفاقية أوسلو السياسية وفي بروتوكول باريس الاقتصادي. بالإضافة إلى إعادة تعريف دور السلطة الوطنية؛ بحيث يستجيب لآمال الجماهير وطموحاتها في الحرية والاستقلال؛ وفي هذه الحالة فقط، يكون الشارع الفلسطيني مستعداً للتضحية وتحمل تبعات مواجهة الاحتلال.
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.