الايام – كتبت بديعة زيدان:”كان أقصى ما حلم به الأب، ظهيرة ذلك اليوم من أيلول 2020، أن يصل جثمان ابنه كاملاً من إحدى جبهات القتال، وأن يدفنه على عجل. فمنذ يومين تبلّغ الخبر المؤسف بمكالمة هاتفية مشوشة، تمنّى ألا تخصه، وأن يكون الأمر مجرد تشابك خطوط. لكن توقعاته لم تُصِبْ على الإطلاق، فما أن انحدرت عربة الإسعاف نحو منزله أسفل تلة من أشجار الزيتون، حتى أدرك أن حادثة موت ابنه حقيقة دامغة.. أنزل جنديان التابوت من العربة، فيما تكفّل ضابط بتسوية الفجيعة عن طريق عبارات مشجعة، ثم استبدل بها تعليمات صارمة تقتضي منع فتح التابوت، تحت طائلة المسؤولية، وضرورة دفن جثمان الابن على الفور، فهو يعلم جيّداً أن كومة الأعضاء، التي جُمعت كيفما اتفق داخل التابوت، لا تحمل أي علامة تُرشد إلى سيارة عن كثب بأنه المجند حسن علي دياب، من سلاح المشاة، عدا الوثائق المرفقة التي وقّع عليها الأب بأصابع مرتجفة بأنه استلم جثمان ابنه وفق الأصول”.
يوهمنا الروائي السوري خليل صويلح في مدخل روايته “احتضار الفرس” هذا، بأن ما سبق هو محور حكايتها، إلا أنّ القارئ، وبعد صفحات عدّة، يدرك أنها محض قصة قصيرة أرسلها كاتبها للصحافي، الذي هو محور الرواية، ولا يحمل اسماً بعينه، على أمل نشرها في الجريدة.
ولكن الحدث المحوري في الرواية لا يخرج عن إطار القصة المرسلة، فالصحافي يتلقى رسالة من شقيقه في القرية بموت والدتهما، التي لم يرها منذ سنوات تسع، أي منذ “الزلزال السوري” في العام 2011، حيث يعيش في دمشق، بينما تعيش أسرته شرق البلاد.
وفي رحلته الداخلية ذهاباً بالطائرة من دمشق إلى القامشلي، ومنها إلى الحسكة فقريته “الشمسانية”، وإياباً برّاً في الحافلة، يتحدث عن سورية التي كانت ولم تعد، من خلال رصده لحكايات العابرين في رحلتَيه.. أولئك المكتوون بنار الحرب التي لا تزال مستعرة في البلاد، وحكايات الجغرافيات التي تستمر في الأنين منذ سنوات، كما الأماكن التي كانت فيما سبق على قيد الكثير من الحياة، في رصد لمآسي الحرب السورية، وكأنها سلسلة تقارير صحافية حكيت بأسلوب سردي، لم يخلُ من تماهٍ مع روايات عالمية بحكايات كتّابها وشخوصها، شكلت جزءاً من تكوينه الشخصي، وإسقاطاً رآه منطقياً على الواقع المُعاش غير المُعاش، علاوة على استحضاره أحداثاً وشخوصاً، بعضهم وثقهم التاريخ، وآخرون صنعهم الصحافي أو الروائي، الذي يبدو أنهما واحد، أو ربما.
تحدث في رحلة الذهاب عن السائق الكردي الذي تنسّم أخيراً “هواء الحريّة بالاستماع إلى الأغاني الكردية علناً، من دون أن يخشى اعتقاله والتنكيل به”، وعن “القرى الطينية المتناثرة، والتلال المحيطة بها، والكنائس المدمرة؛ إثر هجوم كتائب التنظيمات التكفيرية على القرى الأشورية وتحويلها إلى أنقاض”، هناك في المتعرج باتجاه “الحسكة”، وغيرها الكثير.
وأفردت الرواية مساحة للحديث عن مخيم “الهول” الذي “تدفق إليه آلاف اللاجئين من الرقة والموصل والأنبار”، خصوصاً نساء وأطفال قادة ومقاتلي “داعش”.. هؤلاء بلا “قيد نفوس”، أي بلا شهادات ميلاد أو وثائق تدلّ على هوياتهم.. هم القادمون من مختلف أنحاء العالم، ويقيمون في جغرافيا تعج بالعنف اليومي، وحالات الاختفاء، وسيادة “الرشاوى” كوسيلة للخروج من جحيمه، عبر إبرام عقود زواج وهمية، ففي المخيم “جهاديّون عالقون، ومطلوبون في بلادهم، ويخضعون لحراسة مشددة، وأطفال يتدربون على حمل السلاح في معسكرات سرية، وعقوبات صارمة لمن تجرّأ من النساء على خلع الزي الشرعي، أو حتى التفكير بوضع نظارة شمسية أثناء هبوب عواصف العُجاج”.
ويرصد الصحافي في “الشمسانية” أوضاع قريته بعد تسع سنوات على غيابه عنها، والتغيّرات التي لحقت بها جرّاء الحرب، خاصة أنها من القرى التي خضعت لسيطرة “داعش” في وقت سابق، عبر حكايات العابرين غير العابرين، ومنها أنه حين توجه لزيارة قبر والدته فور وصوله للقرية، شاهد أسرة تدفن ابنها مشوّه الجثة، فتذكر القصة التي وصلته عبر البريد الإلكتروني، بحيث كان جثمان الابن في القصة “دون رأس وبذراعين متطابقتين”، في إشارة إلى أن الحروب لا تساوي بين الجميع أو الغالبية العظمى في فرص الموت فحسب، بل تخلط حتى أعضاءهم، أو ما تبقى منها، في عودة لحالة التماهي آنفة الذكر، ومنها حكاية حلاق القرية، الذي عوقب بخمسين جلدة بعد أن حلق ذقن أحد سكان القرية، في وقت كانت فيه “دولة الخلافة” تمنع حلق اللحى، و”مطر الجدوع” والذي فقد ذاكرته؛ إثر فقدانه لـ”ثلاثة من أبنائه في يوم واحد بقصف للطيران الأميركي أثناء عملهم في حفر الخنادق بمحيط مركز الناحية، كما هجرته زوجته الثانية، بعد هروبها مع سائق شاحنة يعمل في شركة النفط، كان يتردد إلى القرية خارج ورديّات عمله”.
وفي رحلة العودة، يمر الصحافي على مدينة “تدمر”، حيث المدرج الأثري، ومعبد “بل”، وأعمدة الشارع الطويل وأقواسه، ووادي القبور والمدافن الملكية، مشيراً إلى أنه في العام 2015، تحديداً في 13 أيار، اقتحم رتل من عربات الدفع الرباعي تحمل رايات “تنظيم الدولة الإسلامية” ساحة المدرج الأثري، التي تحولت إلى مساحة لـ”إقامة الحدّ على الكفرة بقطع الرؤوس والأطراف”، متحدثاً عن عالم الآثار الثمانيني “خالد الأسعد”، وكان مديراً لمتاحف تدمر في الفترة ما بين 1963 و2003، ويعرف بحارس المدينة القديمة الذي رفض مغادرتها، ونجح في إنقاذ 400 تمثال وقطعة أثرية بعد سقوط المدينة، إلا أنهم اعتقلوا العالم الثمانيني وقطعوا رأسه، بعد أن رفض إخبارهم بمكان الكنوز الثمينة في المدينة، وهي قصة حدثت بالفعل، كما حادثة إعدام خمسة وعشرين جندياً في هذه الساحة.
في الحافلة المتجهة إلى دمشق الكثير من الحكايات، وفي المحطات التي تمّر بها حكايات أخرى، كما في “معلولة” التاريخية وحكاية سائق الحافلة الذي مهّد الطريق أمام “الجهاديّين” للسيطرة عليها، وما فعلوه بها وبأغلبية سكانها المسيحيّين، في رحلة الرصد المتواصلة من الحافلة خارجها وداخلها، التي فقدت قبل أن تصل إلى محطتها المفترضة في دمشق، ثلاثة من ركّابها، أحدهم اعتقل على حاجز عسكري، إضافة إلى الزوج الذي قرر الهبوط عند أول حاجز قادم برفقة زوجته أو جثمانها، لكونه لم يصدق أن مرضها أنهى حياتها في المقعد الأخير حيث كانا، وقبل وصولهما إلى المشفى.
وتحط الحافلة في دمشق، فيما لم يغادر الموت الجغرافيات ومن يعيشون مآسي الحرب السورية فيها، كما لم يغادره شبحه وهو يهمّ بكتابة عموده الأسبوعي، فيلجأ إلى ملحمة جلجامش كحائط يستند إليه، في حين كان اتكأ في سرده على حكايات لشعراء سوريين وعرب من بينهم محمود درويش و”جداريته” التي تلامس الموت أيضاً.
“في جداريته التي كانت بروفة أولى للغياب”، سيبني درويش “كونشيرتو، أصواتاً، محاوراً أوركسترا الموت في أربع حركات أساسية، تنتهي بهزيمة الموت في الحركة الأخيرة على وقع ناي وكمنجة”.. “كما سيحاور طرفة بن العبد، والمعرّي، ورينيه شار، في إيقاعات متفاوتة في العلو والهبوط، وفي الصخب والصمت”.
“من يدوزن الإيقاع اليوم، في غياب صاحبه؟ أقول لنفسي: هناك من عبث في مسودّات النوتة! ثم سأدعه وحيداً قبل موعده مع إدوارد سعيد في فترة الظهيرة من كل يوم، ليلعبا النرد معاً. انصتوا إلى عبارته الأخيرة: العزلة مصفاة لا مرآة”.. و”أنا أفكر برمية نرد بلاغية تغلق القوس على مقام الكارثة”.
الرواية الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت، حديثاً، تختصر حكاية سورية ووجعها المنثور في كل زاوية من خاصرتها الممتدة، عبر ومضات سردية تجعل من “سورية” عنواناً رديفاً لعنوانها “احتضار الفرس”، المفتوح على تأويلات عدّة، لا تخرج بمجملها من قبضة الموت الذي لا يزال ينثر غباره الأسود على بلاد كانت جغرافيّاتها عناوين للخضرة والماء والوجوه الحسنة.
“احتضار الفرس” لخليل صويلح.. رحلة في جغرافيا الموت السورية!
