معظم أقطاب الحرب والصراع يحددون الأهداف وتتبع السياسات التي تؤدي الى تحقيقها، ما عدا القطب الفلسطيني الذي يحوم بين قدرية الفوز، وبين الغموض غير البنّاء، وكلاهما يضعان الشعب الفلسطيني أمام مصير مأساوي، وفي أحسن الأحوال أمام مصير مجهول، فضلاً عن إهدار الإفادة من الاستقطابات العالمية المؤيدة والداعمة للحقوق الفلسطينية المشروعة، وفي مقدمة ذلك وقف حرب الإبادة والتصفية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ 11 شهراً.
تتمتع حكومة نتنياهو بوضوح أهدافها السياسية، فهي مع استمرار حرب الإبادة في غزة، وقد صعدت المعركة في الضفة الغربية باستخدام الطائرات المسيّرة والحربية وشن عمليات تستهدف تدمير البنية التحتية، والمضيّ قدماً في عملية الضم، وتمارس سياسة الخنق الاقتصادي والشطب السياسي والمُضيّ في إقامة البؤر الاستيطانية، وتشجع إرهاب المستوطنين، وكل ذلك يحدث تحت عنوان استئصال الإرهاب الذي يشكل خطراً وجودياً.
وتعمل حكومة نتنياهو على إطالة أمد احتلالها لقطاع غزة، وتخطط للسيطرة على المساعدات الإنسانية والتحكم في توزيعها، وتعد خطة لإخلاء ما تبقّى من سكان الشمال – 300 ألف شخص – وفرض حصار عسكري والمضيّ في تحويلها الى مناطق أمنية عازلة. والأخطر من ذلك استمرار ثقافة شيطنة الشعب الفلسطيني وشحن المجتمع الإسرائيلي بسياسة المحو والإقصاء والكراهية. على سبيل المثال جاء في بودكاست تحدث فيه ناشط إسرائيلي: إذا أعطيتَني زراً لمحو غزة سأضغط عليه في ثانية واحدة ولن يبقى أي كائن حي على قيد الحياة في اليوم التالي، وتابع إن أغلب الإسرائيليين اليهود يرغبون في الضغط على هذا الزر لكنهم لا يتحدثون عن الأمر كما أفعل أنا، كل ما نحتاجه قسوة القلب والشعور بالتفوق ونزع الصفة الإنسانية.
حنين مجادلة كاتبة المقال في «هآرتس» التي كشفت عن البودكاست ختمت مقالها بالقول: مات مئير كاهانا لكن روحه لا تزال حية في التيار الإسرائيلي. وحقيقة الأمر أن حكومة الحرب يقودها ويتحكم في قراراتها الكهانيون الجدد. وقرار الحكومة الكهانية هي الاستمرار في حرب تصفية القضية الفلسطينية وتشريد الشعب الفلسطيني، ولا تتردد في توظيف الحرب في انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني القادم لمصلحة مرشحها المفضّل دونالد ترامب. ولم تكترث حكومة نتنياهو من العزلة العالمية، ولا من خسارة الشركاء في اتفاقات «السلام»، ولا من سياساتها التي دفعت نحو استقطاب شعوب المنطقة مع أي طرف يعادي إسرائيل حتى لو اقتصر ذلك على الخطاب.
وماذا عن موقف القطب الثاني في الحرب، إيران في عهد الرئيس الجديد مسعود بزشكيان أعلنت عن رغبتها في تجنب الحرب الشاملة، وقد بدأت تتلمس مخاطر الانزلاق في حرب تشارك فيها الولايات المتحدة وتعرضها لخسائر لا تستطيع احتمالها، وذلك في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي انعكست على قطاع التعليم، حيث غادر مقاعد الدراسة مليون طالب وزاد التضخم الى 40%. ايران بحسب بزشكيان بحاجة الى استثمارات بقيمة 200 مليار دولار لتخفيف الأزمة، بحاجة الى تخفيف الحصار لجذب المستثمرين، وبحاجة أكثر الى تفادي الدخول في حرب شاملة. وكانت دعوة حزب الله مواطني الجنوب للعودة الى منازلهم من المؤشرات على سياسة تفادي توسيع الحرب. وهذا يعني أن الحرب ستتركز اكثر فأكثر على قطاع غزة والضفة الغربية.
كيف تتعامل حركة حماس مع استمرار حرب الإبادة والتهجير والتصفية وتداعياتها الأكثر خطراً في ظل استفراد آلة الحرب الإسرائيلية بالشعب الفلسطيني. كيف تتعامل مع خطر جديد ناجم عن انتشار الأوبئة عبر المياه الملوثة والقمامة التي تحيط بالخيم والتجمعات السكانية المكتظة وتهدد حياة المواطنين، كما تقول رئيسة قسم الصحة العالمية في جامعة ادنبرة -بي بي سي -التي تشككت بعدد الضحايا في ظل انهيار أنظمة التسجيل المدني في غزة الذي يعيق الحصول على بيانات دقيقة حول الوفيات، وقالت ان العديد من العلماء قدروا عدداً يفوق العدد المعلن عن عدد الضحايا، وتوقعت ان تتضاعف الخسائر اذا استمرت حرب الإبادة واستمر خروج المستشفيات عن الخدمة واستهداف الجهاز الطبي وتجمعات المهجرين الضخمة، في غياب تدخل دولي لوقف الحرب وتقديم المساعدات والرعاية الصحية.
لا شك في أن حركة حماس هي الطرف الفلسطيني الذي يتحكم في قرار التفاوض حول وقف الحرب التي تشنها دولة الاحتلال، وهي الطرف الذي نجح في جذب أكثرية الشعب الفلسطيني الى استراتيجية المقاومة المسلحة، لكن قيادة «حماس» اكتفت بانتزاع قرار الحرب، تاركةً فجوة كبيرة مع شعبها الذي منحها الثقة. كان من الغريب قطع تواصلها مع الشعب وتركه نهباً لخطاب شعبوي غير سياسي بالمطلق، وكان من غير الطبيعي عدم تقديم إجابات عن أسئلة المنكوبين، بما في ذلك حقهم في الحياة والأمان، ومعرفة ما هي الخطوات والمهمات المطلوبة منهم، كما فعلت ساحات المقاومة -إيران وحزب الله وسورية -. هل تريد «حماس» المضيّ في حرب المواجهة مع الدولة المتغطرسة على أمل الفوز او منع الأخيرة من تحقيق أهدافها؟ وفي هذه الحالة يفترض الدخول في حرب مفتوحة تنظم فيها المقاومة عمليات ضد الاحتلال في قطاع غزة، وتلحق به الخسائر في الوقت الذي يستمر فيه تعرض المجتمع الى حرب الإبادة، المترافقة مع مستوى من المجاعة، وبداية انتشار أوبئة يعجز الجهاز الصحي شبه المنهار عن تلبية الحد الأدنى من معالجتها بعد ان خرجت معظم المستشفيات عن الخدمة، وما العمل في ظل توقف التعليم للعام الثاني على التوالي، وفقدان الوظائف، وتفاقم ضائقة مالية غير مسبوقة، وتأجيل مفتوح لإعادة الإعمار؟ الاستمرار في الحرب بأسلوب مواجهة مفتوحة او صراع مفتوح كما قال مشعل، أو «انتظار مفاجآت قادمة في الضفة الغربية لا يريدها الاحتلال وأنها ستدق المسامير في نعشه» كما وعد أسامة حمدان؟ إن ذلك يتطلب، أولاً الحصول على موافقة أكثرية الشعب، ووضع حلول للتعليم وأزمة الدواء والماء والصرف الصحي وتأمين الحماية للأطفال والمرضى والحوامل وتأمين الأموال، بمعنى تأمين مقومات الحد الأدنى للاستمرار على أمل تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها المقاومة. إن تجاهل الاستحقاقات الأكثر من ضرورية لعموم الشعب، والاكتفاء بتأمين مستوى من حاجة تنظيم «حماس» وحلقة ضيقة من قاعدتها الجماهيرية، وخوض المعركة على بقاء سلطتها بمعزل عن بقاء شعبها، إن هذه السياسة الضيّقة التي لا ترى ما يجري في الساحات الحليفة، ولا ترى المصلحة الوطنية العليا لعموم الشعب، هذه السياسة لا تدرأ المخاطر المُحدِقة بل تُفاقمها، ولا تؤدي الى قطع الطريق على أهداف العدوان المعلنة وغير المعلنة، ولا تحقق أهداف «حماس» الحزبية الضيقة.
وطالما لا يوجد مشروع سياسي يجابه مشروع الإبادة والتصفية ومشاريع المصالح الإقليمية، وهذا المشروع هو مشروع إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، الذي بدأ ينظر إليه كضمانة لبقاء الدولة المهددة من دولة المستوطنين الكهانية ومن المليشيات الطائفية والأصولية التي ابتلعت الدولة.
عن صحيفة الايام