في عموم الشرق الأوسط هذا عصر الثورة، والذي يتجاوز خبرة أي مسؤول من الذين هم الآن على قيد الحياة. لقد مات مئات الآلاف، وأكثر منهم الملايين الذين يهربون من أوطانهم. والآن، أصبحت الأزمة في العراق وسورية تهدد بإثارة الفوضى العارمة بين طائفتي السنة والشيعة في كامل منطقة الشرق الأوسط برمتها.
في الأثناء، ما يزال هناك العديدون في المنطقة ممن يتوقون إلى طرق الحكم الحديثة ويخشون من الحكم التشددي أو الطائفي، والذين يتطلعون للقيادة من الولايات المتحدة. لكن حكومتنا تبدو وأنها تتعامل بردة الفعل، فاقدة للتوازن، وكثيرة التقافز من عنوان رئيسي إلى آخر. وهنا تمس الحاجة إلى استراتيجية أميركية واعية وشاملة، والتي يجب أن تركز على حكم ذاتي فعال كهدف في عموم المنطقة –بحيث تكافئ من يستحق وتساعد أولئك في المناطق التي تواجه الاضطرابات في الجوار، وتفرض حجراً صحياً على مناطق الفوضى العارمة وتوفر الحصانة للدول المجاورة التي تستطيع أن تكون النقيض الإيجابي.
لا يجب أن يعهد بهذه السياسة إلى مؤسسات أو حدود منزوعة الثقة مثل تلك القائمة في العراق راهناً. وبدلا من ذلك، يجب عليها تعريف وتعزيز مواقف القوة -حوكمة محلية جيدة، وقيادة تستند إلى تصميم محلي، وتعزيز حكم القانون -سواء كان علمانياً أو دينياً في جذوره.
بالنسبة للأميركيين، يجب أن تكون المقدمة هي التواضع. وثمة القلة، حتى في حكومتنا، ممن يعرفون الكثير عن الذي يحدث حقاً وسط الحرارة الحارقة والغبار والدخان في العراق وسورية ولبنان. هناك يتم جلب المقاتلين السنة والشيعة من العديد من البلدان، وأحيانا تجدهم يقاتلون أعداء من طائفتهم نفسها. وفي أربع جبهات في سورية، وفي ثلاث على الأقل في داخل العراق، تدور حرب في الشوارع. وفي الأثناء، يدخل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني نوبة تشنج جديدة.
كان الشاعر ييتس قد كتب خلال عصر مشابه آخر: “الفوضى أفلتت من عقالها” ، و”الأسوأ منها مليء بالحدة العاطفية”. وفي الحروب الأهلية كهذه، من النادر أن تجد مقاتلاً لا ينجر نحو التطرف”.
يشترك معظم الأميركيين في هدف لجم التطرف الإسلامي العنيف. ولا تتماشى القيم السياسية لهذه الحركات -حكمها عن طريق الخوف وعدم التسامح مع إخوانها من المسلمين، والأقل بكثير مع غير المسلمين- مع قيمنا. لكن ذلك طموح كبير. وفي هذا الوضع تبدو الأطروحات العامة الراهنة عن تنفيذ ضربات جوية أميركية في العراق سوريالية. ثمة إغواء كبير في نفثات الدخان الصامتة التي تُشاهد من خلال الكاميرا البعيدة المنفصلة جداً عن الدم أو الصراخ في الأسفل، والذي لا بد أنه يقود قراراتنا.
يبدأ الحل باتخاذ القرار بعدم وجوب أن تكون الآلة العسكرية خيارنا الخاطئ. ولحسن الطالع، وعلى العكس من بقايا القاعدة التي تشجبنا بصوت عال باعتبارنا “العدو البعيد”، نجد أن المجموعات المتطرفة الراهنة تقاتل الواحدة منها الأخرى ولا تقاتلنا نحن في الوقت الحالي.
في وسط هذه الفوضى العارمة، يجب علينا مشاركة المجتمعات الإسلامية التي تتماسك مع بعضها بعضا، بالرغم من الاختلافات الطائفية، وحيث يكون القادة المحليون منفتحين على التغيير. ويجب علينا البحث عن طرق لتوسيع قوتنا وقبولنا. وتلك هي الحاجة الأساسية لأن الثورات في عموم العالم المسلم هي تجاذبات داخلية، تتعلق بكيفية التعامل مع أعباء الحياة الحديثة، والضغط على الهويات التقليدية وطرق المعيشة. ويشعر هؤلاء الناس بالغضب، فوق كل شيء، من حالات الظلم الكبيرة في حيواتهم الشخصية. وكثيراً جداً ما يكون أعداؤهم مواطنين هندسوا تحبيذ الفساد والمحسوبية أو سوء الحكم. وتدور المنافسة الاستراتيجية الكبرى حول من أو ما الذي يستطيع إبراء تلك المعضلات.
من أين تكون البداية؟ أولاً عبر ضبط القوى الهدامة من دون الإضافة إلى الفوضى القائمة. ولعل القوة الخارجية الأكثر هدماً، والتي تدفع التطرف الإسلامي، هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحرسها الثوري. وتبدو سياستنا الراهنة وأنها تعرف ذلك، لكن يجب علينا التمسك بها من دون أن نتقيد، لا بمواعيد نهائية اصطناعية ولا بأحلام توحيد العراق من خلال التساهل مع طهران. ولطالما كانت تدخلات إيران في عموم المنطقة جزءاً من المشكلة، ولا يمكن أن يتم لجمها بواسطة اتفاقية. وما يزال باستطاعة المفاوضين أن يجعلوا إيران تختار بين التعافي الاقتصادي وبين التقدم العسكري، كما نحاول أن نفعل حالياً في المحادثات النووية. ويجب تخفيف العقوبات فقط إذا عرضت إيران التراجع بشكل كامل عن ذلك البرنامج. وإذا لزم الأمر، فإنه يمكن إعداد القوة العسكرية الأميركية للحفاظ على العقوبات أو تقويتها.
ثانياً، لا يجب على الولايات المتحدة الانضمام إلى الهجوم المضاد الذي تشنه الحكومة العراقية لإعادة غزو شمالي وغربي العراق. لندع تلك الحكومة التقسيمية، مثل نظام بشار الأسد في سورية، تحصد نتائج ميزان القوى الذي صنعته سياساتها الضيقة. ولا يجب أن تتوقع الولايات المتحدة أن تكون قادرة على تفصيل الأنظمة البديلة المرغوبة، وليست هناك مصلحة أميركية قاهرة راهناً في استعادة وحدة العراق أو سورية. وتعكس حدودهما خلاصة الصفقات البريطانية-الفرنسية التي وزعت غنائم الحرب العالمية الأولى.
وفي عموم الأحوال، فلنفكر بالأطراف الأخرى التي تقاتل. من شبه المؤكد أن السنة من الدولة الإسلامية في العراق وسورية “داعش” لا يستطيعون اكتساح بغداد أو أي محافظة يسيطر عليها الشيعة في العراق. بل انهم ربما لا يستطيعون الاحتفاظ بما سيطروا عليه. وفي هذه الآونة، تهرع المليشيات الشيعية لمساعدة الحكومة العراقية في ضم الكثير من القتلة الأشرار. وإذا جاء جيش المهدي “لتطهير” المراكز السنية في تكريت أو الموصل، فإنه لن يأتي كمحرر. ولا يشكل ميدان المعركة هذا مكاناً للأميركيين.
ثالثاً، يجب علينا أن نحافظ على كردستان والأردن في بر الأمان باعتبارهما سورين حصينين ناجحين فيهما أنظمة حكم متسامحة. وتحيط كردستان بأسوأ المتطرفين السنة، بينما يحاذي الأردن المناطق التي تسيطر عليها “داعش” في الجنوب. ويبدو أن كليهما أصبحا تحت الحصار. يتوجب علينا تعزيزهما ومساعدتهما. ويستطيع الأكراد التقرير لاحقاً ما إذا كانوا سيكملون استقلالهم عن العراق.
رابعا، التركيز على تركيا ومصر، الحليفين اللذين يقفان على حافة الخطر في الحوكمة المحلية وفي المثال الواسع الذي يمثلانه. والعديد من الأتراك هم علمانيون، لكن رئيس الوزراء التركي منذ وقت طويل، رجب طيب أردوغان، يتجه نحو الدكتاتورية الإسلامية بدلاً من تعزيز التعددية.
وكذلك أيضاً حاكم مصر الجديد المشير عبد الفتاح السيسي الذي بدأ مسيرته بدعم شعبي قوي نسبياً، لكن أمامه خيارات مصيرية. فبعد أن كسب انتخابات مشكوكا فيها بعد انقلاب عسكري أطاح برئيس إسلامي منتخب، هل سنراه الآن يعيد تفعيل المحسوبية ومزايا الجيش واستبداد حسني مبارك؟ أم أنه سيختار طرقاً أكثر جسارة، والتي تنطوي على فتح أبواب المشاركة أمام عدد أكبر من المصريين الذين تعد الفرصة الاقتصادية والعدالة والأمانة وحكم القانون الذي يضبط القوي مثلما يضبط الضعيف أكثر أهمية من الانتخابات في قياس ما إذا كانت الحكومة مفيدة؟
خامساً، يجب علينا مساعدة الفلسطينيين في بناء مؤسسات لدولة تكون قادرة على الحكم، إذا دعت الحاجة إلى القيام بذلك -حتى قبل تحديد حدود الدولة. وكان السعي الأخير لوزير الخارجية جون كيري، من أجل التوصل لاتفاق سلام ينطلق من منطلقات حسنة النية، لكنه مني بالفشل. وفي الأثناء، تراجع التقدم المهزوز للسلطة الفلسطينية في الحكم الذاتي الضئيل إلى الوراء، فكسب المتطرفون. والاستراتيجية التي اقترحها كانت استراتيجية إسرائيل ذات مرة: قبل أن توصي الأمم المتحدة بالتقسيم في العام 1947، أمضى الصهاينة 20 عاماً يبنون “الوكالة اليهودية” لتكون مستعدة للحكم ومتطرفيها العنيفين في أي حدود تستطيع الدولة الجديدة الحصول عليها.
إن الاستعداد للحكم يخلق تحققه، وينبغي أن يكون هذا هو الاستبصار الكامن وراء أي استراتيجية أميركية جديدة للشرق الأوسط.
الغد الأردنية