ثلاثة أطراف على الأقل تتحمل العبء الأكبر الآن وقبل أن تصل بعض العلاقات العربية العربية إلى كسر العظم واللاعودة . الطرفان الأول والثاني تقليديان وهما الجامعة العربية والنخب الفكرية، أما الطرف الثالث فهو شعبي لم يعبر عن نفسه بعد بالقدر الكافي، وقد يكون الأدرى من أية أطراف أخرى بشعاب هذا الواقع، لأنه يشكل مادته الخام وقماشته إضافة إلى لحمه ودمه .
إن انسداد الأفق في أية أزمة ليس أبدياً إلا إذا كان هناك قرار بذلك .
وما ترتب على الصراعات العربية البينية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي لم يخطر ببال من سخّروا الإعلام رغم بدائيته في تلك المرحلة لتعميق الصدوع وتبادل الهجاء، أن مفردات تلك الثقافة لم تتبخر، بل منها ما ترسخ في الذاكرة أو اللاوعي، لهذا يتناسى المتنافسون في سوق عكاظ السياسي لا الشعري هذه المرة أن ما يصدر عنهم يسمعه ويقرأه الناس من مختلف الأجيال.
وهناك أمثلة بالغة الطرافة في هذا السياق، منها أن ما دار من هجاء متبادل بين قطرين عربيين أكثر مما دار بين عبس وذبيان توقف فجأة وبقرار لم تسبقه أية مقدمات أو ممهدات، وحين زار رئيس أحد البلدين البلد الآخر كان من طقوس الاستقبال حشد التلاميذ على طريق المطار للترحيب بالضيف، لكنهم هتفوا قائلين يعيش العميل فلان، لأن كلمة العميل ومرادفاتها استقرت في ذاكرتهم ولم يكن سهلاً التحرر منها بفعل العادة على الأقل . وقد تبدو هذه الحادثة مجرد طرفة سوداء في عالم السياسة لكنها واقعة معظم شهودها من الأحياء .
إن كسر العظم مصطلح عربي بامتياز يقصد به اختراق الخطوط الحمر كلها والتورط بمواقف لا يمكن العودة عنها .
والنخب المنوط بها دور عقلاني يتجاوز الوساطة إلى التنوير وإعادة الرشد المفقود، ساهمت في توتير علاقات والوصول بها إلى مرحلة كسر العظم، إما لأنها مرتهنة لهذا النظام أو ذاك وتردد صدى ما تسمع كالببغاوات أو لأنها تلوذ بالصمت، فهو طريق النجاة، وأخطر ما انتهت إليه الأزمات في النطاق القومي هو فقدان الثقة بين القارئ والمقروء والكاتب والمكتوب .
وحين تصل أزمة الثقة إلى هذا الحد، تصبح الثوابت كلها في مهب العواصف كأوراق متساقطة في الخريف .
ولو كان دور المثقف في حدّه الأدنى وعلى سبيل المجاز أشبه بدور الضفدع الذي ينقل قطرات الماء إلى الحريق فإن ما حدث بالفعل هو عكس ذلك فالدور كان وعلى مستوى البطولة للحرباء التي تفحّ في النار.